pinterest-site-verification=9c2615a3f2f18801311435c2913e7baa دراسة حول مسيرة القصة القصيرة للكاتب عمر أبولقاسم الككلي
📁 آخر الأخبار

دراسة حول مسيرة القصة القصيرة للكاتب عمر أبولقاسم الككلي

 دراسة حول مسيرة القصة القصيرة للكاتب عمر أبولقاسم الككلي*

     الحركة الثقافية الليبية

    تعتبر الحركة الثقافية الليبية، عموما، ضعيفة إذا ما قورنت بمثيلاتها في بعض الأقطار العربية مثل سوريا ولبنان ومصر وتونس والمغرب. ولهذا الضعف عدة أسباب. ولكن السبب الأكثر فاعلية في اعتقادنا، هو ما يمكن تسميته بالسبب الوراثي.
فتاريخيا لم تنشأ في المنطقة المعروفة الآن بليبيا مراكز حضارية متقدمة على غرار المراكز الحضارية التي قامت في أنحاء متعددة من الوطن العربي مثل بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وفاس. وقد تضافرت في هذا الشأن جملة عوامل متداخلة ومتفاعلة منها اتساع رقعة البلاد وغلبة المظهر الصحراوي على تضاريسها ما أدى إلى تناثر التجمعات السكانية في مواطن متباعدة قليلة الكثافة أو ترحلها وعدم استقرارها في بقعة محددة. ذلك أن الثقافة، كما يقول الدكتور محمد الجراری: "لا تزدهر.. إلا وسط فائض بشري ومادی واسع بل مترف، قد يبدأ المثقف في الأطراف - والأغلب كذلك ... لكنه سرعان ما ينجذب للبؤر الواسعة المؤثرة والمجزية ماديا ومعنويا داخل زحام المدن وأسواقها وساحاتها"(1).
     يضاف إلى ذلك أنه حتى المراكز الحضارية الصغيرة التي قامت في كل من طرابلس وبني غازي ومرزق و زويلة وغدامس وغيرها والتي كان يمكن أن تتبلور فيها حركة ثقافية ملائمة أخذت تتعرض إلى ضمور وتأكل منذ القرن السابع عشر مع تبدل حركة التجارة العالمية بعد حركات الكشف الجغرافي الأوروبي وتراجع أهمية تجارة القوافل "(2) . إلا أن هذا لا يعني أن التجمعات الحضرية في ليبيا كانت تخلو تماما من أي شكل من أشكال الثقافة.إرهاصات الأدب الحديث في ليبيا والبدايات المجهضة للقصة القصيرة.

إرهاصات الأدب الحديث في ليبيا والبدايات المجهضة للقصة القصيرة

    يعود ظهور ملامح الأدب الحديث في ليبيا إلى سنة 1908م امع صدور الدستور العثماني الذي عرف باسم «المشروطية، والذي سمح بالصحافة الخاصة في الولايات التابعة للدولة العثمانية ومنها ليبيا أو ما كان يعرف بـإيالة طرابلس.." ومنذ ذلك التاريخ عرفت ليبيا بعض الصحف التي كانت تنشر ما يمكن اعتباره إرهاصات أولى للقصة القصيرة في ليبيا في شكل مقالات قصصية"(3). وهكذا فإننا نجد أن بدايات نشوء هذا الفن في الأدب الليبي الحديث لا تختلف عن بداية نشوئه في بلد عربي أخر له ثقله الثقافي مثل مصر، ولكن لسوء الطالع فإن الحياة الثقافية في ليبيا ونتيجة للهجمة الاستعمارية الشرسة التي شنتها الأساطيل الإيطالية على ليبيا في أكتوبر عام 1911 قد شهدت حالة من الركود والانطفاء (4) . 
    ويدلل الفقيه على رأيه هذا بالإشارة إلى ما أورده الناقد المصري د. سيد حامد النساج في كتابه «تطور فن القصة القصيرة في مصر» من أن مؤرخي القصة القصيرة في الوطن العربي يعتبرون قصصا مثل «سنتها الجديدة، لميخائيل نعيمة التي نشرت عام 1914، و في القطار» لمحمد تيمور التي نشرت عام 1917 هي بداية ظهور فن القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث (5).
    ولم تنشأ تحت نير الاحتلال الإيطالي ما يمكن تسميته بحركة ثقافية لا بالعربية ولا حتى بالإيطالية، ذلك أن هذا الاستعمار كان استعمارا استيطانيا لم يكن بهدف إلى استعمار البلاد وطلينة الليبيين ( على خلاف الاستعمار الفرنسي في الجزائر الذي كان يهدف إلى فرنسة الجزائريين) وإنما كان يستهدف إفراغ البلاد من سكانها وإحلال الإيطاليين بدلهم، كما أن سيطرة الفاشية على إيطاليا سنة 1922 كان نكبة للثقافة في إيطاليا ذاتها، إضافة إلى أنه لم تتح لهذا الاستعمار فرص الاستقرار بسبب قصر المدة التي بقيها في البلاد (حوالي ثلاثين سنة) ويسبب المقاومة الباسلة التي أبداها الليبييون طوال عشرين سنة وحدوث الحربين العالميتين المعروفتين. ورغم صدور عدد من الصحف في ليبيا تحت نير الاحتلال بداية من 1919م (6)
    إلا أنه لم تظهر كتابة قصصية تقترب من القصة بمعناها الحديث إلا في أواسط الثلاثينات على يد وهبي البوري، لكن هذه المحاولة سرعان ما يترت بسبب توقف الكاتب نفسه لظروف شخصية عن الكتابة كما أنه لم تواكبها أو تتأثرها محاولات على نفس القدر من الجدية بحيث تشكل ظاهرة وتبارا ، وذلك للسبب الذي ذكر أعلاه. فاستمرت حالة الانقطاع ما يربو على عشرين سنة أخرى، أي إلى أواسط الخمسينيات من القرن العشرين.

القصة الليبية: الانطلاقة الفعلية

    تمثل أواسط الخمسينيات بداية الانطلاقة الجادة والمثابرة للقصة الليبيبة أي بعد سنوات قليلة من إعلان الاستقلال في 24 ديسمبر 1951م. والملاحظ أن القصة الليبية في هذة الفترة دخلت مرحلة اليفاع مباشرة دون أن تمر بمرحلة الطفولة، أو أنها على الأقل قد اختزلت مرحلة الطفولة إختزا بالغا ويكاد يكون هناك إجماع تام بين الأدباء الليبيين على هذا الرأي. فهذا الناقد المعروف أمين مازن يكتب سنة 1966(أي في بحر عشر سنوات من ظهور القصة القصيرة في ليبيا) قائلا: "حقا أن القصة في هذا الوطن ولدت منذ بدايتها متكاملة ولم تمر بمرحلة المحاولة الساذجة، بل جاءت مستفيدة من تجارب الكتاب العرب إلى حد كبير.وفضلا عن ذلك فإن ثمة من كتبها بنفس الجودة التي كتب بها فرسان القصة في العالم العربی.(7)
    وفي نفس السنة تقريبا يكتب ناقد أخر هو نجم الدين غالب الكيب قائلا بالخصوص القصة القصيرة بدأت تأخذ مكانها بارزة بين مختلف إنتاج الفكر الليبي المعاصر(8) بعدهما بأكثر من سنتين يكتب القصاص کامل حسن المقهور، أحد أهم رواد القصة الليبية وكتابها، يقول في عدد يناير 1969 من مجلة «الرواد الليبية: «لم يعد خافيا أن القصة في الأدب الليبي تمثل إلى جانب الشعر، أنضج أنواع الأدب الذي تفجرت إمكانياته بعد الاستقلال، فعلى الرغم من معاصرة الشعر الليبي لسنوات طويلة من حياة الشعب، وعلى الرغم من حداثة نشأة القصة الليبية على نحو سوي.. فإن المتتبع للحركة الثقافية يمكنه القول بأن القصة الليبية قطعت شوطا بعيداً وحققت انتصارا لم يكن من السهل تحقيقه في باقي عناصر الثقافة الأخرى..» (9)
    وبعد ذلك بشهرين أي في عدد مارس و أبريل من نفس السنة تنشر نفس المجلة مقالا للأديب الليبي المعروف خليفة التليسي مقالا جاء فيه بهذا الشأن، أما القصة فتاريخها حديث في بلادنا.. ولكنها رغم هذا العمر القصير قد استطاعت أن تثبت وجودها، وأن تبلغ عند بعض الكتاب درجة من التفوق والإبداع تضعها في مستوى الأعمال القصصية الناضجة التي يكتبها اللامعون من كتاب القصة في العالم العربي» (10) يمكن المضي في إيراد المزيد من الاستشهادات على النضج المبكر للقصة القصيرة الليبية ومكانتها البارزة في الحركة الأدبية في ليبيا لكننا نكتفي بهذه الأقوال التي تعمدنا أن يكون صدورها بعد فترة قصيرة نسبيا من نقطة الإنطلاق للتدليل على شدة وضوح الظاهرة وقوة وعمق الانتباه إليها.
    وقبل مغادرة هذه النقطة أجد أنه من المهم إيراد شهادتين لناقدين مصريين حول القصة القصيرة في ليبيا، ففي دراسة بعنوان «القصة والإنسان في ليبيا » نشرت في عدد يونيو 1968م من مجلة الآداب البيروتية كتب الناقد المصري الدكتور أحمد عطية "فالقصة الليبية هي أنضج الأعمال الأدبية الليبية بعد الاستقلال بالرغم من حداثتها بالقياس إلى قدم الشعر الليبي،"(11). أما الدكتور عبد القادر القط الذي اشتغل فترة بالتدريس الجامعي في ليبيا، والذي له الفضل في أنه أول من نبه إلى أهمية قصص وهبي البوري في تاريخ الحركة الأدبية في القطر الليبي، فقد كتب في دراسة بعنوان «بدايات القصة الليبية القصيرة» في عدد يناير 1971 م من مجلة «المجلة المصرية» يقول عن القصص الليبية التي كتبت في الفترة ما بين سنتي 1954 -1957 وتبدأ مرحلة جديدة في نمو القصة الليبية القصيرة تتعدد فيها الاتجاهات وتختلف المستويات وتتحقق في أغلب قصصها المقومات المعروفة لهذا الفن الأدبي
والناظر في قصص هؤلاء الكتاب بدرك لأول وهلة أنهم قد تجاوزوا تلك البدايات واكتمل لهم قدر غير قليل من النضج والأصالة وتبلورت تجاربهم ووضحت اتجاهاتهم الفنية، (12).

عوامل النضج

    إذا كان لابد لأية ظاهرة أو واقعة أيا كانت من أن تكون نتيجة أو محصلة لجملة عوامل متضافرة ومتفاعلة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن: ما هي عوامل هذا النضج المبكر الذي أحرزته القصة القصيرة الليبية؟
يمكن تلمس عدة عوامل شاركت في التسريع بهذا النضج المشهود نعتقد أن أهمها:
  1.  توفر نخبة مثقفة طموحة ومتطلعة إلى البناء والتغيير تكونت من المثقفين الليبيين الذين تكونوا في المنافي بسبب هجرتهم أو هجرة أسرهم أيام الاحتلال الإيطالي، ثم عادوا أواسط الأربعينيات بعد زوال الاحتلال إلى أرض الوطن، وكذلك الأشخاص الذين تمكنوا من نيل قدر من التعليم والثقافة تحت ظروف الاحتلال، وهذه النخبة هي التي أسهمت بشكل فعال في تكوين الأحزاب السياسية وإنشاء الصحف.
  2.  الرغبة الجامحة لدى المثقفين والمتعلمين الليبيين في إعادة الارتباط بمحيطهم العربي بعد أن فصلوا عنه على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وتشرب أحدث ما فيه في مجال الأدب والثقافة، وكانت القصة من الفنون الحديثة في البلاد العربية.
  3.  انتشار الفكر الاشتراكي وتنامي حركة التحرر القومي، وكلاهما ذو إطار وهدف تحديثي في كافة المجالات وفي طليعتها المجال الثقافي.
  4. إيفاد البعثات من الطلبة الليبيين إلى مصر تحديدا حيث أتيحت لهم فرصة المعايشة المباشرة لما يعتمل في أهم ساحة ثقافية في الوطن العربي.
  5.  ضعف الحركة الشعرية في ليبيا بحيث لم تجد القصة في الشعر مزاحمأ كبيرة يسلبها قراها.
  6.  الوضع الاجتماعي في ليبيا بعد الحرب وعند بداية الاستقلال والمشاكل التي يواجهها لم تكن من ذلك النوع الذي يتغذى عليه الشعر. على حين شكل ذلك مادة ثرية للقصة. 
  7.  انتشار الصحف وحاجتها إلى مادة تسد بها الفراغ، من ناحية، وتجتذب القراء من ناحية أخرى. الكبو ثم النهوض
    مع نهاية الستينيات توقف العديد من كتاب القصة القصيرة عن مواصلة الكتابة، والجدير بالذكر أن ظاهرة نشاط وتوقف الكتاب بشكل مفاجئ تعد مظهرة بارزة من مظاهر الحياة الأدبية في ليبيا في جميع مجالاتها، إلا أن النمو المطرد للقصة القصيرة في ليبيا استمر، مع ذلك بقوة وذلك بسبب ظهور مجموعة من القصاصين الشبان أنذاك الذين أضافوا إضافات مشهودة المدونة القصة القصيرة الليبية.
لكن القصة في ليبيا أصيبت في نهاية عقد السبعينيات بنكبة بالغة بسبب اختفاء خمسة أصوات قصصية مهمة عن ساحة الفعل الثقافي في البلد، فخمدت حركة القصة القصيرة في ليبيا طوال عقد الثمانينيات وجزء من عقد التسعينيات بحيث لا نكاد نظفر طوال هذه الفترة، بأكثر من صوتين مهمين مع أواسط عقد التسعينيات تقريبا وحتى الآن استعادت القصة القصيرة في ليبيا حيويتها بانضمام أصوات جديدة مبدعة إلى هذه المسيرة التي نأمل لها ازدهارا مستديما.

:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::

الهوامش

  1. د. محمد الجراري، أحمد النائب الأنصاري والمؤسسة العلمية. مقاربة في الأزمنة والأنوار، ورقة مقدمة إلى ندوة «المؤرخ أحمد النائب الأنصاري، حباته وأثاره وعصره في الذكرى المئوية لصدور كتابه (مع نهاية القرن 1899- 1999 ) المنعقدة بمركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، منه إلى 1999/10/10
  2.  نفسه
  3. د. أحمد إبراهيم الفقيه، بدايات القمة الليبية القصيرة، النشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان طرابلس، 1985 ، ص 8.
  4.  نفسه، ص 17.
  5.  نفسه، 7 ص17
  6.  نفسه 17 - 18.
  7.  أمين مازن في خليفة التكبالي. تمرد، قصص قصيرة، اللجنة العليا لرعاية الفنون والآداب، طرابلس. المقدمة, ص10
  8.  نجم الدین غالب الكيب، في الأدب والنقد، وزارة الدولة، الإدارة العامة للثقافة، وحدة التاليف والترجمة والنشر، کتاب الشهر، العدد 20، طرابلس 1975، ص45 .
  9.  كامل حسن المقهور. حول القصة الليبية في بلمير الهاشمي، خلفيات التكوين القصصي في ليبيا.دراسة ونصوص، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس 1984 ص 181
  10. خليفة التليسي، لمحة عن الحياة الأدبية في ليبيا في: خليفة التليسي، رحلة عبر الكلمات الشركة ال العامة للنشر والتوزيع والإعلان. طرابلس ط2 ، 1979 ص 261.
  11. د. أحمد عطية، في الأدب الليبي الحديث. دار الكتاب العربي، طرابلسد وت، ص 59.
  12. في: بشير الهاشمي، مذکور، ص 224 - 225.
*سبق النشر بمجلة عراجين الكتاب الثاني-يونيو 2004
صحيفة المنظار الليبية
صحيفة المنظار الليبية
تعليقات