أخر الاخبار

إخفاء العاصمة ..للكاتب مجاهد البوسيفي


إخفاء العاصمة ..للكاتب مجاهد البوسيفي *

الكوماندوس الإسرائيلي

    كان أول ما توجب القيام به في خطة إخفاء العاصمة هو إزالة كل المعالم والارشادات الموجودة على لافتات الطرق والشوارع،وكانت ضربة معلم، فحتى في أسوأ الاحتمالات التي يكون فيها الكوماندوس الإسرائيلي قد وصل إلى المدينة أصلا، فإن بداية هذا الشكل سوف تبعثرعناوين خرائطه وتجبره على التجمد في مكانه لمعالجة الموقف، ومعرفة مسارب ومفاتيح المدينة التي اختفت فجأة. نزلت مجاميع من العمال منذ وقت مبكر من المساء إلى الشوارع حاملة سلالمها وفرشها إلى الشوارع و تفرقت کأسراب النمل بين مسارات الطريق السريع وافرعه.
    كانوا ينزلون اللافتات الضخمة زرقاء اللون المثبتة بجانب الطريق لتدل السائقين على الاتجاهات وأسماء الأحياء والشوارع التي يمر بها الطريق الدائري السريع، ويستبدلونها بأخرى رسمت عليها صور لانجازات الثورة ورموز توضيحية من تروس مصانع وآلات حرث وزرع، وصورا لكل أنواع الشعب من عمال وطلاب وفلاحين وجنود.

اللافتات الجديدة

     كانت اللوحات الجديدة مرسومة على عجل وبما أخطاء كثيرة ولكنها كانت تفي بالغرض بالنسبة للسرعة المسموح بها في الطريق السريع، أما اللوحات الصغيرة فقد كانت المهمة تقتضي بأن تطلى باللون المتوفر ويكتب عليها شعارات ثورية سادة بدون رسوم استمرت العملية بضعة أيام وليال وفي غضون ذلك كانت تتم عمليات أخرى سريعة الإيقاع وخاطفة، وتأتي دائما من مكان غير منظور لتغافل قدر الإمكان شعيا تعلم لغة الشتم من بعيد، فسرعان ما أعلن عن تغيير التاريخ الرسمي المعمول به في البلاد كلها، وحسب التوجيه الجديد الذي سري بين الناس بنفس الطريقة وتقبلوه بنفس الطريقة أيضا أن تختفي أسماء الشهور وأرقام السنوات المعتادة، وتترك مكانها لتشكيلة جديدة من الأسماء والتواريخ سرعان ما انفض عنها الناس لأنها بدت غير قابلة للحفظ، وعادوا إلى طريقتهم التي اعتادوها في العد أيام زمان، محاولين الوصول إلى مقاصدهم بالحدس والتقدير بعد أن اختفت العناوين والأسماء باذلين كل جهد للتغلب على الواقع الجديد المفاجيء الذي اكتسبت فيه المدينة وجها جديدا مزخرفاً بلا عناية ولا يدل على ما ينبغي. كانوا يمضون نهارهم في انسياب متداع ضائعين في الطرق التي كانوا يعتقدون أنهم يحفظونها غيبا.

تغيير  النقود

    فجأة تغيرت الاتجاهات وصار الوصول والتنقل يحتاج إلى صبر و مجهود ودأب، وبينما كانت الأمور تسير على هذا الحال صدر توجیه آخر يتطلب تغييرالعملة النقدية، وتبديل شكل النقود بالكامل مما حدا بالناس لأن تتزاحم أسابيع أمام أقرب مصرف يمكن الوصول إليه من أجل تبدیل نقودهم بالجديدة، ولأن الإجراء الجديد يقضي بأن يسلم لصاحب المال فقط ألف دينار، ويحق له سحب نصفه كل شهر من ماله الخاص، انتشرت سريعا قصص تراجيدية عن أناس دخلوا المستشفى النفسي الذي يسمى مستشفى المجانين، وأصيب آخرون بخلطة من الأمراض المزمنة بحيث أصبحوا يعيشون بحذر مذعورين بينما غادر آخرون مخلفين وراءهم كلمات قليلة صاغها كل راو ما يناسب بضاعته .
وبعد مجهود كبير بدأ الناس يرسمون خريطة جديدة للبلاد قادها في البداية سائقو التاكسي ، ثم تبعها العقل الجمعي تحت شدة الحاجة لمخرج من تلك المتاهة التي نزلت على عجل. أخدوا يستدلون على،الأماكن بأسماء اللافتات ذاتها التي حلت مكان الإشارات والأسماء والعناوين وعليها لذلك أن تقوم بنفس الدور.

التعليم المنزلي

 وبينما كانت هذه الخطة العفوية المضادة تنمو بالرواية الشفهية ويضاف إليها اقتراحات جديدة باستمرار، صدر قرار يلزم تلاميذ المرحلة الابتدائية بالتعليم المنزلي حيث على الأباء والأمهات تعليم أولادهم في البيوت المناهج التي كانوا يدرسونها في مدارسهم حتى ذلك الوقت ، وامتلأت الشوارع بأطفال من مختلف الأعمار بعضهم شرس، وأخذوا منذ الصباح في لعب البطش والنقيزة ووابيس والشرطة واللصوص، فرحين بهذه الهدية التي هبطت من السماء وتخلصوا بفضلها من عسف المدرسة والأناشيد الاساسية المرعبة، ولأنهم لم يكونوا على مقدرة لتفهم أمر القرار فقد ظنوا بطبيعة الحال أن المدرسة اختفت نهائيا ولم يعد هناك ما يقتضي الذهاب لذلك المكان.

التلفزيون الوحيد

التلفزيون الوحيد أيضا شهد تغييرات حاسمة، فقد كان دائما يخلو من أي شيء ذي بال، حيث يكاد يقتصر على الخطب والأغاني الحماسية وتجمعات التأييد ومحاضرات طويلة للأخ القائد يشرح فيها رؤيته للحكم الجماهيري بنفس الطريقة التي يتبعها منذ ثلاثة عقود، لكن الجميع كان يفهم بأنه غرفة الحكم الحقيقية وعن طريقه لابد أن يصل المرء دائما للإجابة على ما يشغل باله شرط أن لا يعتمد كثيرا على المنطق وتتابع الأحداث، ولكن التلفزيون هذه المرة بدا أيضا غريب الأطوار، حيث زادت جرعة الحماس وشرع يبث فقرات طويلة يبدو فيها العقيد القذافي بملابسه اللافتة وهو يتفقد البلاد في رتل طویل سيارات متشابهة، والجماهير تخرج لملاقاته في كل مكان، وكانت الأناشيد الثورية تتردد في كل فاصل إضافة لأنواع أخرى مختلفة لنشاطات الجماهيرية وسيل من برقيات العهد والمبايعة التي تستمر قراءتها فترة طويلة من نشرة التاسعة والنصف، وکترفيه عن الشعب عرضت سلسلة جديدة من مسلسلات مكسيكية كل منها يستمر أشهرا، بحيث تختلط فيه الأنساب والأسماء والأماكن وكل شيء.

قل ولاتقل 

    ثم ظهر الاستاذ جابر محمود بعد غيبة طويلة ليبدأ فورا في عمل حياته "قل ولا تقل"، وكأنه كان ينتظر خلف الشاشة منذ السبعينات:

  • لاتقل یاهوه.. قل يا شريكة حياتي.
  • لا تقل هنري كيسنجر .. قل مفتاح الغناي
  • لا تقل قاعد ماجاش.. قل لم يأت بعد
  • لا تقل تاتشر .. قل قاتلة الأطفال
    كان الشيب بالكاد قد غزا شعره الكث رغم سنوات عمره المديدة، بدا أقل حدة من سنوات شبابه و مطلع کهولته لكنه كان لازال قادرا على الأمر والنهي، ويملك الرغبة في اغتنام الفرصة وهو يؤدی بشكل معقول على كل حال.

تسميم الأبار

    وفجأة انتشرت معلومة بين الناس تفيد باكتشاف محاولة لتسميم آبار المياه الخاصة بالمدينة، وأنه قد تقرر من باب الاحتياط قفلها حتى تتم معرفة كافة الأمور التي تحيط بتلك المؤامرة، فمن يدري قد یکون للكوماندوس أنصار في الداخل وقد تلقوا الإشارة بالعمل. هذا إذا لم يكن أفراد الكوماندوس قد وصلوا بالفعل للمدينة رغم ماتم من خطوات للتضليل، وشرعوا فورا في العمل على تنفيذ مخططهم الصهيوني الحقير، والذي رغم أن لا أحد قد عرفه على وجه التأكيد إلا أنه سيكون شريرا ورخيصا وابن كلب.
    وبدأت جموع الناس تخرج حاملة براميلها وسطولها للشوارع قاصدة الجوامع والنقاط التي توجد بها السبل القديمة، وتلك التي تبرع بها المیسوزون الذين مدوا أنابيب المياه الى الشوارع من آبارهم الخاصة ، ومن لم يستفد من هذه التسهيلات عليه أن يشتري المياه من شاحنات أخذت تجوب الشوارع في تجارة جديدة أنجبتها الحاجة والروح الجماعية التي تكافح كي تعیش وسط بساط الريح ذاك.
    كان الأطفال العاطلون عن الدراسة والأهل الساعين بحثا عن الماء والسيارات التي يتكرر مرورها بنفس الطريق عدة مرات ، قبل أن تهتدي للاتجاه الصحيح، وغير ذلك من تغييرات متعاقبة قد جعل من المدينة متاهة متداخلة مليئة بالحركة السريعة والضجيج والضياع. 

تضليل الكوماندوس 

    غيرأن هذا لم يكن كافيا لتضليل ذلك الكوماندوس الحقير على ما يبدو، فتم تغيير لوحات السيارات بأخرى أكثر حروفا وأرقاما يحتاج فهم مدلولها لأيام، كما غيرت المعالم الرئيسية في الشوارع الكبرى وكسرت قوائم خيل النصب الواقع على طرف الساحة الخضراء من جهة مصرف الأمة، وسمح للمواطنين بركن سياراتهم في الساحة الخضراء بقلب العاصمة على مقربة من القلعة المهيبة حيث يقول الناس أنه توجد شبکات معقدة من الأنفاق التي تخفي سجنا يقع تماما تحت المنصة التي تمر أمامها مواكب العرض السنوي في عيد الثورة عندما تختار طرابلس لتكون مكانا للاحتفال.
    كانت الهمهمات المعجبة التي تروى عن مسئولين أمنيين معروفين في البلد معبرين من خلالها عن إعجابهم بخطة التضليل تنتشر بسرعة بين الناس، مرددين أنه إذا كان هذا حال سكان المدينة الذين اعتقدوا أنهم يعرفوها كما تعرف الأم وليدها من بين ألف، فكيف سيكون حال وخل المخنثين الإسرائيليين الذين يحملون بضعة خرائط وصورا ملتقطة من السماء، معتقدين أن ما يدور أمامهم هو ما ينبغي أن يكون . كانت تلك التعليقات القصيرة المتقنة تتردد من قبل الأفواه في الجلسات البيتية المضمونة بنوع من الرهبة والاعجاب والترقب، فما يعرفه السكان بشكل مؤكد، أنه كلما مرت بالمدينة فترة جنون كالتي فيها الأن يذهب العديد من سكانها ضحايا دون أن يدروا ما السبب.
    حتى أن سجن بوسليم المركزي الذي تم هدم بوابته في أصبح الصبح كان لايزال يشمل قسما کبيرا اسمه قسم البراءة، لذلك كانوا حذرين جداً، وخفيفي الحركة حين إنهم باتوا يشبهون الدواب الليلية. يلتزمون التعبير عنما يريدون بشبكة من التعابير والأسماء المرمزة التي يبتكرونها لقاموسهم الخاص المصاغ بحذر شديد. 
    كان السكان يقضون يومهم في قضاء مصالحهم وتدبير أمورهم حيث تتوافق مع الوضع الجديد. يحومون كطيور البر بقرب مصبات المياه - مهملين أعمالهم الحقيقية - نهارا على المصارف وسبل الماء العامة وإدارات المرور وثكنات الجيش متبادلين بشكل سريع في لقاءاتهم الليلية المعلومات والخبرات الجديدة، ويتساندون بطريقتهم الشعبية لمواجهة غياب المدينة أمام أعينهم في ضرب أقرب إلى السحر.

عصابة القط الأسود

    وبرغم تقدم سكان المدينة في إيجاد حلول للواقع الجديد تمگنهم من قضاء مصالحهم الضرورية، كانت الأحداث تتسارع مطيحة بإنجازاتهم الصغيرة لتدفع بهم لسهوب الحيرة من جديد في كل مرة، ففي أحد الأيام المشئومة ظهرت عصابة إجرامية متخصصة في خطف البنات المراهقات اللواتي بالكاد نفرت نهودهن، وبدأت حكايات مجنونة ترد من هنا وهناك تلهج باسم العصابة الغريب (عصابة القط الأسود) التي تنتقل گالريح من مكان لآخر وتنفض كالصقر على ضحاياها من الشابات الغضات اللاتي يختفين للأبد، لم ير أحد تلك العصابة ولا حتى ضحاياها، ولكن القصص حولها كانت تنتشر كالحمى في جسد طرابلس المريض، من كل الاتجاهات والأبواب والأحياء كانت الحكايات تتوالى لتزيد به من رعب الأمهات والآباء الذين اتخذوا إجراءات استثنائية بحيث صار من شبه المستحيل أن تلمح فتاة تسير بمفردها في اي وقت ، حيث تشكلت حراسات مرتجلة من افراد وجماعات حسب الحال ترافق الفتيات ، وتنتظرهن على أبواب المدارس، والأماكن التي من الضروري أن يقصدها خوفا من عصابة القط الأسود الرهيبة.
    وبعض مضى أسابيع على هذا الرعب أختفت العصابة فجأة بعد أن كتبت على حائط مدرسة طرابلس المركزية للبنات بخط أسود عريض مطلبها الأخير، الذي نص على رغبتها الاجرامية في أن يوفر السكان سبع بنات شقراوات ومثلهن سمراوات إذا أردوا أن يستريحوا من هذا البلاء، غير أن عصابة جديدة كانت على وشك الظهوراسمها عصابة (الطاسة المشلومة والشيشة المكسورة) التي استهدفت كل أنواع السكان ، بدون تفرقة وجعلت من عصابة القط الأسود مجرد لعبة طفولية بعد أن مارست مختلف أنواع تقطيع الأطراف ضد ضحاياها، الذين ألقى بهم حظهم العاثر في طريقها الخالي من الرحمة، ولمواجهة هذا الرعب كان الأهالي ينامون بالدور في بيوت مشتركة مقسمين أنفسهم على ورديات عسس منهكة طوال الليل، وفي کل مرة كانت الجريمة تحدث في الحي المجاور برغم كل الاحتياطات حتى أصيب البعض بالجنون، وفضل الاستسلام لقدره دونما أية محاولة لإنقاذ الأرواح.
كانت لعنة إخفاء المدينة تتراكم كل يوم، بحيث أن الأهالي أصبحوا يفضلون سيطرة الكوماندوس الإسرائيلي على المدينة مؤكدين ان ما يحدث في فلسطين المحتلة لن يكون بأية حال أكثر رعبا مما يعيشونه هنا ، متبعترين بين كل أنواع الخوف، وسد الحاجات التي صارت تزداد صعوبة مع كل توجيه جديد.

_______________________________

* من رواية أزاتسي لمجاهد البوسيفي


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -