أخر الاخبار

مفهوم البساطة.. للدكتور نجيب الحصادى

مفهوم البساطة.. للدكتور نجيب الحصادى
مفهوم البساطة.. للدكتور نجيب الحصادى


مفهوم البساطة: حديث مفتعل عن مشكل مفتعل

مقدمة

مفهوم البساطة - على بساطته التي يبدو بها لأول وهلة - غاية في التعقيد، ولعل في عجز جل من عنى به عن تحليله تحليلاً بدهياً قابلاً لأن ينعقد الإجماع حوله شاهد بيناً على ذلك. وبوصفه مفهوماً فلسفياً، يثير هذا المفهوم مشكلتين أساسيتين، تتعلق أولاهما بتحديد معیار حاسم بمقدوره تصنيف الفروض - كائنة ما كانت طبيعة السياقات التي تطرح فيها - الى فروض بسيطة وأخرى أقل بسا طة (أو أكثر تعقيدا). أما ثاني تينك المشكلتين فتفترض أن الفرض الأبسط – في حال تكافؤ الأدلة - موضع تفضيل بالنسبة للفروض الأقل بساطة، وتتعلق بالاجابة عن السؤال الذي يستفسر عن مبرر وجوب أن يكون ذلك كذلك. وبالرغم من أن للإشكالية الأولى أسبقية منطقية على الاخيرة - على اعتبار أن إمكان تبرير وجوب تفضيل الأبسط رهن بمعرفة هويته - إلا أن هناك علاقة مستترة بينهما. ذلك أن جدوى البحث عن معیار حاسم للبساطة وقف على افتراض کون الأبسط أجدر بالقبول، الأمر الذي يعني أن ذلك البحث يعد - في غياب مثل هذا الافتراض - نوعا من الترف الفكري الذي يعوزه المعنى قدر ما تعوزه القيمة.

تفضيل الأبسط

يتعين علينا بداية - وقبل أن نشرع في تقويم تحليل «کارل بوبر» لمفهوم البساطة - تحديد جملة من المعايير التي نستطيع بالاحتكام اليها تعيين مسار أكثر السبل ملاءمة لحل هاتين المشكلتين. وأول ما نوده تقريره في هذا الخصوص هو أن التصورات التي تطرح لتحليل هذا المفهوم - وان لم تكن ملزمة على المستوى المنطقي بافتراض وجوب تفضيل الأبسط -مطالبة-في حال اغفالها لذلك الافتراض - بتفسير الشعور السائد بأن الامر على تلك الشاكلة. على ذلك، فإن كون المعيار المطروح يستلزم - بشكل او بأخر- وجوب تفضيل الأبسط يتطلب بدوره أن يكون المعيار نفسه أكثر بساطة من سائر المعايير التي ندري بها أو يدري بها صاحبه. بكلمات أخرى، فإنه ليس بوسع المرء أن يطرح معياراً غاية في التعقيد - إن كان معياره يفضي إلى وجوب تفضيل الأبسط - دون أن يسحب البساط من تحت قدميه. وباختصار ليس شديداً، إذا استلزم المعيار المطروح وجوب تفضيل أبسط الفروض، تعين أن يكون أكثر المعايير المطروحة بساطة، وإذا اتسق وإمكان تفضيل ما هو أقل بساطة، تعين على صاحبه تفسير لماذا يبدو الحكم القائل بوجوب تفضيل الأبسط حكما بدهياً (بتبيان كونه مضللاً بأحد اس خاطئة) كما تعين عليه البحث عن مكمن أهمية معياره.

البساطة مفهوم نسبي 

الأمر الثاني الذي نود تقريره هو أن مفهوم البساطة مفهوم نسبي . هذا يعني - من جملة ما يعني - ان خصيصة البساطة لا تطلق على أي فرض إلا في سياق مقارنته بفرض آخر (أو فروض أخر) ؛ ليست هناك فروض بسيطة بذاتها، بل هناك فروض أكثر بساطة (أو أقل تعقيدا) من غيرها. ليس هناك حد أدنى للبساطة، وليس هناك حد أعلى للتعقيد، بل هناك نوع من التدرج اللامتناهی يتوجب أن يجد فيه الفرض الذي نعني بأمر بساطته موضعاً ملائماً بالنسبة لسائر ما نعني به من فروض. والواقع أن شأن مفهوم البساطة هنا هو شأن كل المفاهيم الغامضة .
ليس هناك - على سبيل المثال - شاهد قوي بذاته، بل هناك شواهد أقوى من غيرها وأخر أو هي من سائر ما في حوزتنا من أدلة . وعلى النحو نفسه بل وللسبب نفسه - ليست هناك سلوكيات عقلانية وسلوكيات لاعقلانية، هناك سلوكيات اكثر (أو أقل) عقلانية من سائر ما نعني به من سلوكيات .
ولأن السؤال المتعلق بأي الفروض يتوجب - لبساطتها - تفضيلها عما سواها لا يطرح - وليس له أن يطرح - إلا في سياق الخيار بين فروض تعنی بتفسير فئة بعينها من الظواهر، فإنه يتعين ألا يكون بمقدور المعيار المطروح البت في أمر بساطة الفروض التي لا تمت لبعضها بعضا بصلة كونها تروم استقراء تواترات فيما يلاحظ من ظواهر ذات مجال موحد (ما لم يكن ذلك المعيار متسقة وإمكان تفضيل الفروض الأقل بساطة). 

الخيار بين الفروض 

وعلى وجه التخصيص، فإن السؤال الذي يستفسر عما إذا كانت نظرية النسبية أبسط من نظرية النشوء والارتقاء - إن طرح في سياق يفترض أن الأبسط أجدر بالقبول - لا يستحوذ على أي معنى او قيمة، ولذا فإن لنا أن نتوقع عدم ملاءمة أي معيار قادر في ذلك السياق على الاجابة عنه. وعلى نحو مشابه، فإن السؤال المتعلق بأي الفروض يتعين - لبساطتها - تفضيلها عما سواها لا يطرح - ولا ينبغي أن يطرح - إلا في سياق الخيار بين فروض تتكافأ - بشكل او باخر قوة شواهدنا على صحتها، ولذا فإن لنا أن نتوقع عدم ملاءمة أي معيار قادر في غير ذلك السياق على الإجابة عنه. وباختصار - هذه المرة - شديد، فإن افتراض كون أبسط الفروض أفضلها لا يتسق وإمكان المقارنة بین فروض لا تعني بالظواهر نفسها أو لا تمتلك القدر نفسه من الشواهد .
فضلا عن ذلك كله، يتعين أن يكون تحليل مفهوم البساطة جامعاً لا يستثني مايبدو على المستوى البدهي ما صدقا واصحاً لذلك المفهوم، ومانعاً لاينطوي على مالا يبدو كذلك ، على ان يمتلك ذلك التحليل - في حال استيفائه لهذا الشرط - حق تصنيف الحالات الغامضة بالطريقة التي يصنف بها سائر الحالات. فإن عجز عن ذلك . فاستلزم ماصدقية ما لا يبدو بدهياً ماصدقا واضخاً له- توجب عليه طرح ما يفسر مثل هذا التناقض مع أحكام البداهة. لاحظ هنا أن ما يناط بتحليل مفهوم البساطة لا يقتصر فحسب على تصنيف القروض إلى ما هو أقل وما هو اكثر بساطة بل يتعدى ذلك إلى طرح تفسير يبرر مثل هذا التصنيف، وتلك مهمة تكون أصعب ما تكون حين يكون المراد تفسيره هو اختصاص القرض بخصيصة لا يبدو على المستوى البدهي أنه يختص بها أصلا. هذا بالضبط ما يعطي لتحليلات مفهوم البساطة المتسقة مع أحكام البداهة تلك الصبغة المعيارية التي تكفل لها حق تصنيف الحالات الغامضة بالطريقة التي تصنف بها سائر الحالات.

معيار البساطة

لاحظ ايضا ان إمكان قيام معيار للبساطة يفترض أنها شأن موضوعي قابل لأن ينعقد الإجماع عليه . وعلى وجه التخصيص، فإن الاضطلاع بمهمة تحليل هذا المفهوم على نحو يتسق وما سبق ذكره من معايير شكلية يتضمن إنكاراً صريحاص للفكرة القائلة بأن البساطة "في عين الرائي"، وان ما يعد في عين المرء غاية في البساطة قابل لأن يكون في عيون اقرانه غاية في التعقيد. وبالطبع، فإن المرء أن يذهب إلى أن البساطة لا تعدو أن تكون علاقة ذاتية بين الفرض وبين قدرات مختبره على الاستيعاب، بيد أنه ليس له - إن ذهب هذا المذهب - أن يروم طرح معیار حاسم لها أو أن يقرر وجوب أن يكون الأبسط أجدر بالقبول.
تعد قابلية الفرض الدحض - في تصور كارل بوبر - معيارا حاسماً لعلميته. هكذا يعتبر الماركسية والفرودية- لقدرة اصحابها المستمرة على جعلها مستقة مع كل ما يمكن ملاحظته من ظواهر - نظريات ميتافيزيقية لا تمت للعلم بأدنى صلة. فلكي يكون الفرض - في منظوره- جديراً بالنقاش يتعين على صاحبه تحديد الشروط التي تكفل - في حال توافرها - بطلانه التصور الذي يطرحه "بوبر" لمفهوم البساطة يتسق تماما وهذا المنظور، فهو يقرر ان الفرض (س) يعد أبسط من الفرض (ص) إذا كان محتوی (س) الأمبيريقي أعظم من محتوى (ص). ولأن هناك - منطقيا - علاقة طردية بين قدر محتوى الفرض الأمبيريقي وقابليته للدحض، فإن هناك ما يبرر وجوب تفضيل الأبسط في حال تكافؤ الأدلة. باختصار، فإن الأبسط . في تلك الحال- هو الأجدر بالقبول لأنه الأكثر قابلية للدحض. هكذا نجد . على سبيل المثال - أن الفرض القائل بان مدار الافلاك دائري الشكل أبسط من الفرض القائل بانه اهليلج (قطع ناقص) على اعتبار ان الفرض الأول قابل للدحض بتحديد أربعة مواضع لا تقع على دائرة (يمكن دائمأ لثلاثة مواضع وصلها بدائرة) في حين أن تفنيد الفرض الثاني يتطلب على الأقل تحديد ستة مواضع (يمكن دائما لخمسة مواضع وصلها باهليلج)

بساطة الفرض 

من البين أن بساطة الفرض لا تتعلق ببنيته المنطقية ولا تتعلق بالطريقة صياغته بل تتعلق بالمحتوى الذي يقرره القضايا المتكافئة منطقياً تعتبرهذا السيب - على قدر متكافيء من البساطة رغم أن استيعاب قضية ما قد يكون أيسر من استيعاب ما یتكافأ معها. هنا نجد أنه بمقدورالتصور الذي يطرحه "بوبر" تفسير هذا الحكم البدهي إن القضايا المتلازمة منطقياً تستحوذ على القدر نفسه من البساطة لأنها على درجة متكافئة من حيث قابليتها للدحض. وعلى النحو نفسه، فإن القضية الكلية ذات الصيغة الشرطية تعد باستمرار أبسط من القضية الجزئية، والسبب في ذلك يرجع الى أن حالة مخالفة واحدة للقضية الكلية يكفي لدحضها، في حين أن ای عدد متناه من الحالات المخالفة يعجز عن دحض القضايا الجزئية . إن قاعدة واحدة لا استثناء لها تدحض الفرض القائل بأنه لكل قاعدة استثناء بيد ان أي عدد متناه من القواعد التي ليست لها اية حالات استثنائية لا يكفل دحض الفرض القائل بوجود قواعد ذات استثناءات. ولكن، أحقا أن القضايا الكلية تعد باستمرار أبسط من القضايا الجزئية؟ ليس بوسعنا الآن الاجابة عن مثل هذا السؤال، لا سيما وأن حالة القضايا الكلية - في سياق مقارنتها بالجزئية - تعتبر حالة غامضة لا تتفق أحد في شأن بساطتها. وكما أسلفت، فإن وضع مثل هذه الحالات الغامضة تحدده تلك المعايير التي لا تجد أدنى صعوبة في تصنيف الحالات الواضحة.

 القضايا التحليلية 

ماذا عن القضايا التحليلية (او التحصيلات الحاصلة التي لا تقرر حامیلها إلا ما قد سبق تقريره في مواضيعها؟ ألا تبدو على المستوى البدهي - كأبسط ما يمكن أن تكون القضايا؟ أليست القضية «كل العزاب * متزوجين» - على سبيل المثال - قضية غاية في البساطة؟ وإن لم تكن - بدهيا - غاية في البساطة، أليست هناك على الأقل قضايا أقل بساطة منها؟ على دلك وهذا هو أحد أوجه قصور التصور الذي يطرحه «کارل بوبر»، فإن " الأبسط هو دائما الأكثر قابلية للدحض يستلزم أن القضايا التحليلية - كائنة ما كانت بنيتها المنطقية - غاية في التعقيد، فمثل هذه القضايا - بالتعريف غير قابلة للدحض. إن وضع التحصيلات الحاصلة البين يؤكد بالضبط نقيض ما بود «بوبر» البرهنة عليه، فالعلاقة بين قدر محتوى القريض وبساطته لاتبدو طردية بل عكسية. وعلى وجه الخصوص، فان القضايا التحليلية تعبر عن أبسط ما يمكن ان تكون عليه صيغ القروض لأنها تخلو تماما من ادنی محتوى وتتسق مع كل ما يمكن ملاحظته من ظواهر.
لاحظ أن كون الفرض (س) يستلزم منطقية (ولا يتكافا مع) الفرض (ص) یعنی ان محتوى (س) أعظم من محتوى (س)، ومن ثم فإن «بوبر » ملزم بتقرير ان القضايا المستلزمة تعد دائما أبسط من القضايا المستلزيمة (ما لم تكن متكافئة). إن هذا التقرير الذي يذهب اليه «بوبر» صراحة في كتابه منطق الكشف العلمي - لا يستلزم فحسب ان القضايا التحليلية غاية في التعقيد - على اعتبار أنه بمقدور أية قضية (حتى وإن كانت متناقضة) استلزام اي قضية تحليلية - بل ويستلزم أيضا أن القضية الوصلية تعد باستمرار اكثر بساطة من كل جزء من أجزائها . قالقضية الوصلية (س وص) على سبيل المثال تستحوذ على محتوى أعظم من ذلك الذي تستحوذ عليه اس)، فضلا عن أن هناك بديلين يمكن بهما دحض القضية الوصلية (هما بديل بطلان (س) وبديل بطلان (ص) في حين أن هناك بديلا واحدا لدحض ) (الا وهو بديل بطلانها)، الأمر الذي يعني ان القضية الوصلية اكثر قابلية للدحض - ومن ثم أبسط - من القضية التي تقرر فحسب أحد اجزاء الوصل .هذه حالة واضحة أخرى بعجز معیار «بوبر» عن تصنيفها تصنيفا ملائماً، فعلى المستوي البدهي تبدو القضية (س) أبسط بكثير من القضية الوصلية (س وص) مرة أخرى. تجد أن وضع القضايا الوصلية البين -في حال مقارنته بوضع القضايا التي تقرر فحسب أحد أجزاء الوصل- يؤكد تماما عكس ما يود «بوبر» البرهنة عليه، فأجزاء الوصل تبدو اكثر بساطة من الوصل الوصل لأن محتواها أقل .

تصور بوبر

لاحظ ايضا أنه بمقدور البديل الذي يقرر ان (س) ابسط من(ص) إذا كان محتوی (ص) أعظم من محتوى (س) أن يفسر الظاهرة السيكولوجية المتعلقة بقدرة البشر على استيعاب الأبسط وبما يواجهونه من صعوبات في فهم الأقل بساطة. إذا كان محتوی (ص) أعظم من محتوی (س) ، فانا لنا ان نتوقع أن يكون فهم (ص) أعسر على البشر من فهم (س)، الأمر الذي يعد شاهد بينا على بساطة (س) في حال مقارنتها مع (ص). البديل الذي يطرحه «بوبر» - والقائل بأن للبساطة علاقة طردية مع قدر محتوى الفرض المراد البت في أمر بساطته - غير قادر على تفسير تلك الظاهرة. إذا كان الأعظم محتوى أبسط من الأقل محتوى، فلماذا يعسر على البشر فهم الأعظم محتوى؟ وأي سند يمكن باللجوء إليه تبرير وسم الأعسر على الفهم بالأبسط
إنني - بطرح هذه الشواهد على ملاءمة البديل الذي ينكره "بوبر" - لا اروم تبيان كيف أن للبساطة علاقة عكسية مع قدر محتوى الفروض، بل احاول توضيح أوجه قصور تحلیل «بوبر» بأن ألعب دور من يدافع عن نقيضه. وبالطبع، فإن هناك أوجه قصور - تكاد تكون مماثلة - تتعتري البديل الذي ينكره «بوبر»، أذكر منها - على سبيل المثال - أنه يفضي إلى حكم غير بدهي مفاده أن القضية الشرطية (إذاس فإن ص) أبسط من القضية الوصلية (س و ص)،على اعتبار ان الاخيرة تستلزم الأولى، وعلى اعتبار ان ذلك يعني أنها أعظم محتوى. بيد أنني بالتأكيد على تقابلية هذين التصورين أنتهج نهج من يريد البرهنة على أن وضع تصور "بوبر"، ليس أفضل حالا من وضع التصور الي ينكره، ولأن هذا التصور الأخير على درجة متكافئة من البساطة ان لم يكن بالفعل أبسط من تصور«بوبر» -ولأن «بوبر» يقرر صراحة وجوب تفضيل الأبسط، فإنه - وإن لم يسحب البساط تماما من تحت قدميه - قد أوشك أن يفعل.
والواقع أن «بوبر» بحكم كونه ينظر من منظور خاص للعلم يبجل النظريات التي تغامر برقبتها»، وبحكم كونه يفترض مسبقا أن الأبسط اجدر بالقبول - ملزم بأن يطرح تصورا للبساطة يطابق بين الأبسط والأعظم محتوى. بكلمات أخرى، فإن «بوبر» ليس في حل من أمره حين اضطلع بمهمة تحليل هذا المفهوم، ولعل هذا ما يفسر ذلك النوع من التعسف الذي تسهل ملاحظته في الطريقة التي ينتهجها في تحليل سائر المفاهيم المتعلقة بما يثيره النشاط العلمي من اشكاليات. وبالطبع فإن هذا هو قدر التصورات ذات مركز العود الموحد؛ فهي ترجع المتكثر نظير ثمن باهظ ألا وهو التعسف المستمر.
فضلا عن كل ذلك، فإن «بوبر» - فيما أعلم - لا يشير صراحة إلى ضرورة الايطرح السؤال المتعلق بأي الفروض يتعين - لبساطتها - تفضيلها إلا في سياق الخيار بين فروض تعني بتفسير ذات الفئة من الظواهر. هكذا انه يعرف مفهوم البساطة باللجوء الى فكرة قدر المحتوى مؤكدا على أن الاستلزام - بمعناه الاستدلالي الدقيق - معیار ملائم لتحديد قدر محتوى الفروض، ومغفلا بذلك إمكان أن تستلزم قضية ما قضية اخرى دون ان تمت لها بصلة من حيث المحتوى، الأمر الذي يكفل إمكان ان يكون فرض ما ابسط من فروض لا تعني بتفسير ذات الفئة من الظواهر، وعلى وجه الخصوص فأنه بمقدور أية قضية تقريرية - كائنا ما كان نمط الظواهر التي تعني بإستقراء تواترات فيها - ان تستلزم أية قضية تحليليلة، بيد أن ذلك لا يعني با أن تلك القضية التقريرية أعظم محتوى من القضايا التحليلية، كما لايعني كونها أبسط منها.

تكافؤ الأدلة

يبقى سؤال أخير: ما الذي يدعونا لتقرير کون الأبسط. في حال تكافؤ الأدلة - أجدر بالقبول؟ لقد عبر الكثير من العلماء - فيما يقرر "کارل همبل" - عن اقتناعهم بأن نواميس الكون بسيطة بطبعها، وبالطبع فإننا إن عرفنا ذلك توجب علينا تفضيل أبسط الفروض على اعتبار أنه سيكون الأكثر احتمالا. ولكن، من أين للبشر معرفة مثل هذا الأمر؟ إن معرفة أن قوانين الطبيعة بسيطة بطبعها تستلزم معرفة هوية تلك القوانين، وتلك المعرفة على افتراض امكانها - تستلزم بدورها لا جدوى التساؤل عن هوية أبسط الفروض. من جهة أخرى، فإنه ليس بوسع المرء تبرير تقرير بساطة نوامیس الكون بشاهد كون الأبسط أجدر بالقبول دون أن يصادر صراحة على المطلوب. في مقابل ذلك، فإن هناك طائفة أخرى من العلماء والفلاسفة تبرر وجوب تفضيل الأبسط على اعتبار ان العلم ينشد طرح نظريات وصفيه مه للعالم، بيد أن هذا المذهب لا يحل اشكالية تبرير وجوب تفضيل الابسط بل يؤجلها، فالسؤال لماذا يتوجب على العلم نشدان فروض مقترة» لم بعد. وعلى نحو مماثل، فإن وجهة النظر التي تقرر أن الأبسط أفضل من الأقل بساطة لأنه أسهل للتناول والتطبيق يفشل في طرح مبرر مقنع لتفضيل الابسط على اعتبار انه يخلط بين المقاصد النفعية (البرجماتية) والمقاصد النظرية ، فضلا عن ذلك، فإن كون الفرض أعسر على الفهم والاستعمال ليس حجة منطقية يعتد بها لدحضه لا سيما وأن عسر الفهم شأن نسبي يتوقف -من جملة ما يتوقف - على قدرات البشر على الاستيعاب.

 اشكالية البساطة

ولكن، لنا أن نتساءل - في ضوء ما سلف ذكره - أي ضرر يترتب على  الخيار بين الفروض (في حال تكافؤ الأدلة) بسمة الاعتباطية؟ بكلمات اخری، لماذا لا يكون الخيار بين الفروض (في تلك الحال) كالخيار بين السبل التي لا ندري سلفا أيها يفضي بنا إلى ما نروم الوصول اليه؟ وعلى وجه الخصوص، لماذا لا تكون اشكالية البساطة - بشقيها - مشكلة فلسفية مفتعلة قابلة لأن يتم الخلاص منها نهائيا بمجرد تقرير خلو أمر البت فيها من أدنى مترتبات حاسمة؟ وللقارىء - بعد هذه التساؤلات المحبطة - ان يتساعل، إذا كان الأمر على هذه الشاكلة، فما جدوى الحديث عن مفهوم البساطة؟ وله أقول، إن الأمر ما كان ليبدو على تلك الشاكلة قبل الخوض في الجدل القائم حوله على النحو الذي سبق طرحه، وله علي أن أذكره بأن من يروم البرهنة على افتعال أية اشكالية ملزم بافتعال الحديث عنها!
على ذلك، فإن إمكان الخلاص من اشكالية البساطة - عبر التأكيد على اعتباطية الخيار بين الفروض في حال تكافؤ الأدلة وقف على إمكان تفسير الشعور السائد الذي يقرر وجوب تفضيل أبسطها. لماذا تستكين نفوس البشر للابسط وتعزف عما هو أعسر على الفهم؟ ألأن احتمال صدق الأبسط يفوق. احتمال صدق الأقل بساطة؟ كلا، فنحن من جهة نفترض في هذا السياق تكافؤ الأدلة - الأمر الذي يستلزم تساوي ذينك الاحتمالين - ونجهل من جهة آخری ان نواميس الكون بسيطة بطبعها. إن السبب هنا لا يعدو أن يكون متعلقا بکون الأبسط أسهل على الفهم واسهل للاختبار والتحقق وا للاستعمال في سباقات التعليل والتنبؤ والتطبيق، بيد أن هذا -گما اسلفنا - ليس مدعاة لرفض الاقل بساطة، ومن يذهب غير هذا المذهب إنما يخلط بين مقاصد العلم النارية الصرفة ومقاصد البشر العملية، إن كون الأسط وی على البشر الجهد والوقت يعني عقلانية سلوك من بروم توفير جهده ووقته حين يقبل الأبسط ويرفض الأقل بساطة ، ولكن أي مبرر في حوزتنا نستطيع باللجوء اليه تقرير أن العلم يروم مثل هذه الغايات؟ للمرء أن يرفض فرضأ ها لأنه لا يتسق وما يلاحظ من وقائع او لاستحالة التحقق من مصداقيته أو لأن الدقة تعوزه، بيد أنه ليس له أن يرفضه لمجرد أنه أعسر على الفهم أو أن هناك ما هو أيسر منه للتناول والتطبيق.







تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -