أخر الاخبار

صفقة عادلة لمجاهد البوسيفي

صفقة عادلة لمجاهد البوسيفي 

 انا من الجيل الذي ورث اذاعة لندن المسموعة مع ما ورثه من جينات وطبائع واسماء، كان الواحد منا يولد ويجد امامه اوقات محددة يسمع فيها من الراديو اصوات ممتلئة تتفوق على طنين قادم من بعيد يحاول ان يشوش على ذبذباتها المتنقلة في البيت، في الفترات الثلاثة التي تعود آباونا فيها على الاستماع لها، تقوم الصباح، تجهز نفسك للذهاب للمدرسة او الشغل فتلمح الوالد في الركن وهو يطمئن على اليوم مائلا نحو الراديو الذي ينغم الاخبار على لحن الاباء الصباحي المفضل، ثم تعود الى البيت حيث تعلن الطواريء فعليا مع نشرة الثالثة بعد الظهر ويسود الصمت التام حتى ولو كنا في عرس بمجرد ان تسمع كلمة (هنا لندن) التي كانت بمثابة بيان أول يتردد كل يوم، نراقب رؤوس الآباء وهي تميد ناعسة على صوت المذيع الساحر المحمل بأخبارنا التي لا تسر صديقا ولا عدو، كأن المشهد بكامله كان يحدث في واحدة من قصائد الماغوط، ودائما كان هناك رجل كبير في السن يعلق سريعا في مابين الخبرين ليعلم المذيع بأننا معه في الاستماع، باااهي..ايه..بلى..حروف سريعة مشجعة قبل تناول كأس (الشاهي) والعبور للخبر التالي في سلام.

صفقة عادلة لمجاهد البوسيفي
الكاتب الليبي :مجاهد البوسيفي

     اما في الليل فقد كانت تقام جلسات استماع جماعية للاقارب والجيران حيث تفتح نقاشات لا تنتهي في تعليقات ما بعد نشرة الاخبار، نسمع مقتطفات منها في فتوتنا ونحن نجلب المشاريب او تاليا نشارك فيها بأراء كنا نعتقد انها جديدة وحادة ونهائية يقابلها ذلك الجيل الخبير في سماع الاخبار بابتسامة حزينة لم ندرك معانيها الا بعد ان صرنا في عمرهم وبعد ان فات الآوان.

ورغم شكي الأصيل، وريبتي الدائمة، وحذري المتجدد المشروع من اي شيء له علاقة بالحكومة والسياسة البريطانية الرسمية وبأي شكل، وبرغم الفخاخ الانجليزية الأصيلة المدفونة في اراضينا شاهدا أزليا للتذكير هنا وهناك، برغم هذا التوجس الصحي والحذر الذي هو في مقام الواجب المطلوب، مع كل هذا سأغامر وأقول ان انشاء راديو لندن ربما هو الصفقة الوحيدة العادلة التي قامت بيننا وبين الحكومة البريطانية على طول الطريق والتي يحق لنا ان نكون غير سعداء لانتهاء مدة صلاحيتها لاسباب نقدرها ونقر بها.

انشاء راديو لندن ربما هو الصفقة الوحيدة العادلة التي قامت بيننا وبين الحكومة البريطانية

    احتاجت بريطانيا العظمى لذراع قوي ناعم في منطقة كانت تعرف بأنها ستحوز على أكسير العالم الصناعي الجديد بأكتشاف النفط مع وجود شريان حياتها في قناة السويس وتاليا في حربها مع النازية على اراضي شاسعة في الشرق، واحتجنا بالمقابل لمن ينقل لنا اخبار بلداننا المترامية على اطراف الخريطة في زمن مقطوع ولمن يربطنا بالعالم الذي ماكنا نعرف منه غير الجنود والمندوبين السامين الذين يتصرفون فينا كحق اصيل قبل ان نتعرف عليه مع البي بي سي، أرادت لندن بقاءنا معطلين اطول فترة ممكنة وتهدئة حماسنا او توجيهه بهدوء وتعويدنا رويدا رويدا على اسم وفعل اسرائيل واحتجنا نحن لمتابعة اخبار اولادنا الذين يخوضون حروبا في العراق وليبيا ومصر واليمن بلاذنب، بعد ان رفضت اذاعاتنا ان تخبرنا عنهم اي شيء.

    ممتنون لهذه الاذاعة لأنها كانت صريحة معنا رغم الآلام التي تسببها الاخبار الحقيقية للفرد. فبينما كانت اذاعات حكوماتنا الثورية تخبرنا بأننا من نصر الى نصر ومن ازدهار الى ازدهار فضلت البي بي سي ان تصارحنا بأن الأمور ليست تمام واننا هزمنا في كل حرب وان الاخبار والارقام التي تبثها اذاعاتنا لا يعتمد عليها في شيء. بفضل هذه القسوة في الحياد الخبري في كثير من الاحيان بقى شيئا ما متقدا داخلنا رغم كل المشاق، فقد صرنا نعرف معلومات تهمنا عما يجري ونحن ممتنين لمن اوصل لنا تلك المعرفة حتى ولو مزجها بمصالحه فما من تبادل يقوم على منح بلا مردود.

أرادت لندن بقاءنا معطلين اطول فترة ممكنة وتهدئة حماسنا او توجيهه بهدوء 

    ندرك ان تعويض هذه الاذاعة امرا ليس بالصعب في وجود غابة من المنابر والقنوات اليوم، لكن مايصعب لحظة الوداع هو اننا نعرف بأننا نودع واحد من آخر الاشياء التي نشم عليها ريحة ذلك الجيل الصبور، جيل آباء اشقتهم المدن والانظمة ولقمة العيش، لكنهم ظلوا يبتسمون تلك الابتسامة الصلبة التي تقول اننا نعرف مايحدث وان كنا صامتون

(المقال منقول من صفحة الكاتب مجاهد البوسيفي على تويتر)


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -