أخر الاخبار

حزمة كرناف.. للشاعر مفتاح العماري

 حزمة كرناف.. للشاعر مفتاح العماري


(1)

قبل ستين حولا،
لم يكن أبي من بين أصدقائي الطيبين.
بينما أمي دائما مشغولة وحزينة.
عيناها غائبتان،
وأسنانها تلمع في ضوء القمر بأسى فاغر.
حتى وإن ضحكت سهوًا؛
ستبدو كمن يستسلم لمآثر الموتى
وتنسى خبزنا يحترق.

(2)

وفيما الريح تتعثر بباحة الحوش
وقميصي يرقص على الحبل،
تمنيت لو أننا نملك أجنحة كالطيور.
عوض انتظار القادم الذي ظهره غيمة؛ وبين يديه كتابٌ مبلول وحديقة من شجر البرتقال.
ننتظر دون أن نفهم.

(3)

مضت ثلاث حقب تغلي بما فيها. ونحن، لا شيء يشغلنا سوى أب ضائع وهذه الحكومة التي تجعلنا نصطف في طوابير طويلة أمام المخابز ومحطات الوقود. فيما شيخنا لا يغادر خيمة الوهم الا إذا التهبت طبلة مؤخرته بأخبار سامة.

(4)

قبل ستين حولا، كانت جدتي الدرداء تعالج ثقوبا في قعر الذاكرة. وحين تخليت عن العابي قالت: لا تستعجل مستقبلك ففي يوم ما ستكبر وتأخذك النساءُ على محمل الجد. ربما ستصبح فقيها أو حكيما؛ من يدري!؟ لكن عوض البقاء في الغابة، عليك أن تذهب الى المدرسة. سينتظر خالك الأحدب أوبتك حدّ المغارة الكبيرة، تلك التي اختفى عندها قطيع الماعز، حيث تسكن ذئبةٌ وجراؤها العمياء. وريثما تكبر، ستبيد كتبا واحلاما، ووجوها تعرفها وتعرفك، واحذية كثيرة. لكن مَن يدري؟ قد تشتعل الحرب مرة أخرى؛ ولن تترك لك حكاية آمنة. إذّاك أخشى أن تفقد إحدى جناحيك في رحلة طائشة لا قمر يهدي ماضيها؛ كأن تتربى مشيتكَ على ضراوة التيه، وصوتك ينكمش، ليغدو مثل جرذ جائع. لعلك ستبني منزلا كما أرى ولن تسلم من أعدائك الكثر لتقضي كهولتك خائفا من جسدك. وتهدر المزيد من مائك مع اناث الرمل، سليلات المغارة نفسها التي جعلت خالك يتبول في نومه ويهدر العمر خائفا من خياله، فيما لا أحد يعلم كيف ضاع والدك الذي لن يذكره أحد دونما أثر لعواء، وجمال يتخبط.

(5)

قالت: لأننا لا نملك شيئا من الموسيقى؛ صارت وجوهنا بهيمة، ومن يكبر جوعه؛ سيمشي خفيفا مثل ظل منبوذ. الذكور تأخذهم الحرب، وتُساقُ النساءُ بسعر الحطب. ليست الحرب والفقر وحدهما ما نخاف فللحياة أكثر من وجه دميم، كالجهل الذي بات عندنا حيث ما من أحد فينا يفك حرفا أو يرتدي طربوشا. كنا أميين أبناء رحيل. ومن يكبر منّا؛ يبدو خفيفا مثل حلم مهجور. الذكور يموتون أولا، وكل أرملة هنا حتما ستكذب إذا بكت زوجها بعد الأربعين. ثمة من لا يحتفظن طويلا بالرسائل والتصاوير. وأخريات يلعبن بأردافهن في المآتم، ستعرفهن جميعا إذا كنت فحلا. وستدرك عن كثب أن ما يجلبه الوادي لا يصلح أن يكون سقفا. وثمة أيضا الكثير مما يشاع؛ عن أبواب النساء واثدائهن في الغربة الباردة، وقد سكرتْ الكلماتُ ورقصت القوافي. وأن كل خيال تملكه سيغدو مهبا لمن دبّ

(6)

في الليل، كانت أمك وحدها تُخبرالبئر والنار لكن ما أن خطفت عقل والدك حتى صرنا أنا والدهر وحيدين جدك أعمى وخالك يترنح مثل ديك أعرج؛ أسنانه صفراء، وكلامه يتعثر. ولأمر نجهله بتنا نفضلُ النومَ نظيفا دونما احلام. ومن يرغب في الخروج عليه أن يترك قفلا لعائلته وبضعة أسماء يسهل حرقها. لكن أباك حين هجّ لم يترك سوى ثلاث كلمات ينبغي فكّها. فيما نحن محض عجوزين أميين الذكر أعمى، والأنثى تنحني.

(7)

بعد ستين خريفا ونيف لا سماء الحوش حكاية طيبة ولا الجهل رفيقا يؤتمن. تلك كانت غلطتنا كلنا، نحن حزمة الكرناف؛ أعني أمك وأنا، وخالك الأحدب. كذلك شيخ العشيرة وسعادة رئيس الحكومة الذي يكذب كثيرا ويتخرأ أكثر، والكلبة التي استمرأت قضيب الراعي. وكل لصوص الدولة الفاسدة، وهذه الأرض الملعونة التي لم تكن بريئة في يوم ما. كلنا يا ابن ابنتي الوحيدة خسرنا قصيدتك. ومشينا دون أن نسأل ما الذي نسيناه يا ترى؟ أعني، مَن كان العود الذي تصرم من حزمة الحطب وسقط من دون أن يسمعه أحد؟

(8)

وأخيرا أيها الطائش سواء أكنت سفينة الطوفان أم الصدفة الرحيمة التي انقذت يوسف من غدر أخوته، أو كلب الكهف المقبور في نومه الذي لا يكف عن إقلاق الموتى، أو اللعنة التي فرقت بين موسى وقومه؛ فقط حاذر فمك لو عدت للغابة نفسها مرة أخرى. وتريث يا ابن الغالية، تريث قليلا قبل أن تشي بأحلامك، ولا تكن كذاك الذي كلما أحبّ، يلقى حتفه الغامض.

القصيدة من قصائد المجموعة الشعرية : " حكايات تجعلنا نخجل"


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -