📁 آخر الأخبار

حدث في غرفة المدير ..للصادق النيهوم

 حدث في غرفة المدير..للصادق النيهوم 

حدث في غرفة المدير ..للصادق النيهوم

صحيفة المنظار الليبية: مجلة جيل ورسالة

حكاية رجل مثل القرود

    مدير حديقة الحيوان في مدينة شيستر ببريطانيا، رجل سمين مرح يدعى بين اصدقائه باسم موبي ديك لانه ناصع البياض الى حد ملفت للنظر ولانه يزن - عادة - قنطاراً ونصفاً وستة ارطال .. أعني عندما يبدو في قمة لياقته البدنية ، اما خلال فصل الشتاء الذي يتميز دائماً بالكسل ومغالبة الملل بأطباق الطعام فان وزن السيد المدير يتجاوز احياناً وزن فيل متوسط الحجم
  •  كانت مشكلته انه قابل للزيادة بلا حدود. وكان ينهض كل يوم مكسور القلب ويغرق أحزانه في برميل صغير من اللين بالاضافة الى خمس بيضات مسلوقة وخمس بيضات اخرى نصف مسلوقة،  ثم يمنح امرأته قبلة الصباح،  ويتدحرج الى مكتبه في حديقة الحيوان مقطباً حاجبيه في انتظار( طوفان النكات السخيفة) الذي يطارده في كل مكان يذهب اليه . وكان الطوفان يطارده حقاً .
  • عند باب البيت يقول له الكناس وهو يراقب عربته الفولكس بازدراء: "مستر موبي ديك . أنت في الواقع تحتاج الى سفينة"، وعند مدخل الجسر يوقفه شرطي المرور ويخبره ببرود ان الجسر غير معد لعبور الدبابات المتنكرة في زي فولكس فاجن، وفي حديقة الحيوان يجد الزوار ينتظرون وصوله عند باب المكتب ويكتشف دائماً أن أحد الموظفين المحتالين قد باع لهم تذاكر خاصة لمشاهدته،  كان المدير السيء الطالع جزءاً من حديقة الحيوان ، لكن ذلك لم يضايقه قط .
  •  لقد تعلم أن يحترم رغبة الناس في الضحك. وتعلم ان ينصت الى نكاتهم باهتمام وينفجر ضاحكاً عندما تعجبه النكتة وينفجر ضاحكاً أيضاً اذا لم تعجبه باعتبارأن النكتة السخيفة تستحق الضحك من باب الرثاء على الأقل . وقد بلغ به التسامح إلى حد أنه علق فوق باب مكتبه لافتة تقول:" حيوان غير معد للزيارات" ، وقبل عرضاً من صاحب المطعم داخل الحديقة بأن يتناول طعام الغداء كل يوم في مطعمه، لكي يجذب الجمهور . ولقد تناول المدير غداءه حقاً على مشهد من الجمهور ، وأنهى أمامهم ديكاً رومياً كاملاً في جولة واحدة تقريباً، ودشنه بلتر من النبيذ، ثم التفت لصاحب المطعم وقال ببساطة انه ما زال جائعاً، وانه يطالب بالزيادة في مكافآته اليومية مما أدى بالطبع الى إلغاء العقد بأسره، وعودة المدير لكي يتناول غذاءه في مكتبه . هنا تغير مجرى حياته فجأة . فقد أحضر له أحد الحراس ذات يوم قرداً طائشاً سيئ السلوك وأخبره انه لم يعد بوسعه أن يحتفظ به في قفص واحد مع بقية القرود لان الحيوان الاحمق، لا يسمح لأحد غيره بأن يقترب من صحن الطعام، ولا يكف عن سلب رفاقه كل لقمة قوت تصل اليهم . ثم قال الحارس للمدير انه يوصي أن يعرض القرد للبيع أو يعدم رمياً بالرصاص .
  • وفي اليوم التالي تناول القرد غداءه على مائدة المدير، وجلسا معاً جنباً إلى جنب مثل طاحونتين بسيطتين وهرسا رطلين من الموز ونصف رطل من الحلوى ونصف برميل من اللبن، وبضعة أكياس من اللوز المقشر، ثم استندا الى الوراء وشرعا يتبادلان النظرات . كان المدير بالنسبة للقرد مجرد زميل في المهنة يعرف الاصول ويعرف كيف يتجنب الشجارغير اللازم باحضار كمية كافية من كل شيء. لكن القرد بالنسبة للمدير كان يعني أكثر من ذلك مرتين . فقد قرر موبي ديك - الذي لم ينس قط أنه أيضاً عالم حيوانات مؤهل تأهيلاً عالياً - أن يخضع القرد لتجربة علمية معقدة جداً ، وقرر بالذاتأن يعرف منه كل شئ عن مشكلة السمنة.
  • كان قد افترض ان القرد مريض مثله ، "يحب الطعام" ، وافترض أيضاً أن ذلك "الحب" ، ليس أمراً غير طبيعي تحت كل الظروف . لقد كان من الواضح أن القرد سليم الجسم كلية ، وان جشعه لا بد أن يملك تفسيراً طبيعياً عادياً ، لكنه كان من الواضح أيضاً أن "الشحم" ، خطر قاتل بالنسبة للقرد، وان غريزته ستهديه الى ايجاد حل ناجح للمشكلة . وكان المدير يحتاج الى معرفة الحل أكثرمن جميع القرود في العالم لذا فقد بدأ يغلق باب مكتبه بالمفتاح خلال فترة الغداء ، وبدأ يسدل ستائر نافذته ثم يجلس بجانب "شارلي" ويقشر له الموز، ويعطيه واحدة ويأكل اثنتين طوال العشرة أسابيع التالية . لقد كلفه ضيفه خلال هذه الفترة اكثر من نصف راتبه ، وكلفه أيضاً كثيراً من النكات الجديدة التي حاكها الموظفون في الخفاء وتركوها تصل إلى أسماعهم عن طريق "الجواسيس"، لكن التجربة بدأت تعطي ثمارها في نهاية المطاف وبرز بطن القرد الجشع أمامه مثل كرة مغطاة بالوبر وبدأ ينتفخ كل يوم .
  •  بعد ثلاثة أشهر زاد وزن القرد ثلاثة أضعاف وغابت عيناه في طيات الشحم وصار يفضل أن ينال طعامه مستلقياً على ظهره . وانتهز المدير هذه الفرصة الذهبية وانطلق يدلق في حلقه أرطالاً من الموز واللبن بلا حساب . كان يریده أن "ينفجر بالسمنة"، أو يخبره بعلاجها السري ، وكان القرد فيما يبدو - لم يكتشف بعد أنه يحتاج الى علاج من أي نوع.
  • لقد ظل مستلقياً على ظهره في مكتب المدير مثل أحد دراويش التكايا ، وظل يفتح له فمه لكي يدلق فيه ما يستطيع أن يشتريه من الطعام ، ثم يلعق يده علامة الرضاء ويطلب منه أن يوقظه عندما تحين الوجبة التالية . ولقد كاد المديرأن يعتريه اليأس أمام هذا السلوك غير الحيواني ، وكاد أن يأمر باطلاق الرصاص على شارلي النهم قبل ان ينفجر في مكتبه ، لولا أنه جاء إلى مكتبه ذات صباح ولم يجد شارلي بداخله
  • اذ ذاك ركض المدير حاملاً فوق كتفه قنطاراً ونصفاً من الشحم المستثار وانطلق يبحث عن ضيفه في كل ركن من الحديقة ، وقد وجده عند منتصف النهار يجلس واجماً في الشمس ويمط شفتيه بحزن بالغ. وعندما رأى المدير رماه بنظرة ازدراء واحدة ، ثم أشاح بوجهه جانباً وعاد يمط شفتيه. كان قد اكتشف عدوه.
  • واكتشف بالذات أن الزميل الذي يحضر له عراجين الموز ويدلقها في حلقه لا يفعل ذلك لصالحه فقط  لكن القرد لم يكن قد هجرمكتب المدير لكي يبدي له خيبة أمله في صداقتهما فقط،  بل لكي ينقذ نفسه من أرطال الشحم طبقاً للوصفة السرية التي لا يعرفها أحد سواه ، وكان المدير آخر مخلوق في العالم يزمع أن يلومه على التنكر لصداقته . لقد جلس بجانبه في الشمس دون أن يقول له كلمة واحدة، وشرع يلتقط له فيلما تسجيليا كل يوم. اننا نملك الآن تسجيلاً كاملاً للوصفة السرية لكن المضحك في الامر ان القرد لم يبح لنا بسر واحد لم نكن نعرفه من قبل .
  • لقد ظل يؤدي التمرينات السويدية . هذا ما ظل يفعله في وصفته المجهولة . كان يقف على قدميه ويحرك ذراعيه في الهواء ثم يقف على يديه ويحرك قدميه في الهواء ، وكان ينط الى أعلى كأنه يقفز الحبل، ثم ينبطح على بطنه وينغمس في تمرينات خاصة لتقوية عضلات الصدر.الفرق الوحيد الذي أظهره القرد عن رياضيينا العاديين أنه يظل يؤدي تمريناته بأمانة أكثر قليلاً من الأمانة الانسانية العادية . لقد ظل يتمايل في تمريناته المرهقة ثلاثة أسابيع بلا انقطاع دون أن يلحقه الملل.
  •  لم يكف عن تناول طعامه، ولم يعذب نفسه برفض الموزالمقشرأيضاً ، بل ظل يطحن كالعادة كل ما يصل الى حلقه ، وظل يصحب المديرالى مكتبه لتناول الغداء ،لكنه تعلم عادة جديدة وثابتة تمثلت في اصراره على القفز طوال فترة الاكل . واصراره على ابقاء نافذة المكتب مفتوحة . فاذا بدأ المدير يقشر موزة اضافية ، وأحس القرد أنه لم يعد في حاجة اليها ، فانه يمط له شفتيه دون أن يتوقف عن القفزثم يعبر النافذة ويركض هارباً . كان يفر من اغراء الموز ، وكان المدير في حاجة مريعة الى هذا الدرس البسيط 
  • وقد تعلمه في حينه. وتعلم أن يفر مع القرد مولياً الادبار من سلة الموز، ثم يركض وراءه على طول الحديقة وينط مثله، ويلوح بذراعيه الهائلتين مفرغاً جهداً غير انساني في التزام الامانة تجاه تمريناته وعندما خسر خلال الأسابيع الثلاثة الأولى خمسة ارطال من الشحم المؤلم بدأ يكتب تجربته لاكاديمية العلوم في لندن .
  • قال موبي ديك ، الذي لم يعد يزن أكثر من مائة كيلو جرام ،ان القرد قد علمني أن مشكلة السمنة ليست شيئاً في الواقع سوى مشكلة توازن بين الميول. كان يحب الطعام وكان يعرف أنه مضطر، لان يحب تمريناته الرياضية بنفس الدرجة ، وقد اعتراه الحزن أمام هذه النتيجة في البداية، لكنه عاد فأقنع نفسه فيما يبدو بأن تمريناته هي بالذات الحل الوحيد، الذي سيتيح له أن ينعم بالموز، دون أن يتعرض لغزو الشحم . ان الوصفة السرية فيما يبدو ليست سرية حقاً ولكنها أيضاً غير واضحة بالنسبة لمعارفنا الحالية، فنحن نتصور ان الشحم تراكم سعريات حرارية ونوصي بالتخلص منها عن طريق الحركة، لكن المشكلة- كما تشير التجربة - ذات طبيعة اخرى . ان الشحم ظاهرة ملازمة لاختلال الميول الفردية، ونحن لا نستطيع أن نجد لها علاجاً ناجحاً الا اذا بدأنا في دراستها بمثابة مشكلة نفسية . ان الانسان لا بد أن يتعلم كيف يوازن بين ميوله لكي يتجنب هذا المرض .
  • كان ذلك يعني تقريباً ان الشحم علامة على مرض نفسي معين وان السيد المدير يقتحم التاريخ من أوسع أبوابه بهذه النظرية المثيرة، لكن العلماء رفضوا فكرته رفضاً مسطحاً بحجة عدم توافر أدلة كافية، وربتوا على كتفه مواسين وطلبوا منه أن يعيد تجربته مرة أخرى تحت اشرافهم المباشر، وللمرة الثانية عاد المدير يتناول غداءه في حجرة مكتبه ويقشر الموز لقرد جديد آخر ويعطيه واحدة ويأكل اثنتين . ذلك يحدث الآن تحت اشراف طرف ثالث يمثل اكاديمية العلوم .
  •  فاذا حدثت المعجزة مرة أخرى .واذا برز بطن القرد مثل كرة مغطاة بالوبر و واختل التوازن بين ميوله ، حتى بات يفضل أن يأكل موزه مستلقياً على ظهره، وتجاهل ميوله للحركة والركض ومطاردة بقية القرود. واذا جاء المدير الى مكتبه ذات مرة ووجد فرده السمين قد هرب لكي يؤدي تمريناته المرهقة في الشمس فان الانسانية تملك فرصة ثمينة في اكتشاف مصدر مجرب لاحد امراضها المخربة .
  • ان القصة ما تزال حتى الآن طريفة أكثر مما ينبغي ، وما تزال بعيدة عن روح العلم ، وشخصية حافلة بالمخلوقات المترهلة من الناس والقرود على حد سواء ، لكن  الشحم ، بالذات ليس طريفاً، وليس مصدراً للقصص أيضاً. انه مرض خطر ينتشر الآن في مجتمعاتنا الانسانية، اكثر مما ينتشر أي مرض آخر، ويبشرهذا الكوكب بمخلوق مترهل مفرط السمنة يتعثر تحت حمل حضارتنا المعقدة، وينتحر من داخله يوماً بعد يوم. فاذا أثبتت التجربة أننا بدأنا نكتشف طبيعة هذا المرض، واذا سلط الفلم ضوءه الواضح على مصدره المخرب، وساعدنا على تفهمه بدقة أكثر فان ما حدث في غرفة مدير حديقة الحيوان في مدينة شيستر، قد لا يبدو أمراً بعيداً عن أي اكتشاف علمي حاسم، وان السمان ، بالذات مطالبون بالدعاء للقرد ومديره بالتوفيق .
    (سبق نشر هذا المقال في مجلة جيل ورسالة)

صحيفة المنظار الليبية
صحيفة المنظار الليبية
تعليقات