حدیث عن ديوان شعر (العودة ليست دائماً إلى الوراء).. للصادق النيهوم
صحيفة المنظار الليبية: مجلة جيل ورسالة
ذات مرة قال محمد الفيتوري مخاطباً سيده :
(..الأن وجهك أبيض
ولأن وجهي أسود سميتي عبدا ؟..)
وترك قضيته معلقة في بساطة على طرف هذا السؤال المميت . فالاجابة مستحيلة من هنا ، أعني حتى اذا كان المرء فصيحاً ومثيراً ومدرباً على ركوب لسانه بين أحصنة السباق في الدرجة الأولى ، فانه لن يركبه من هنا لكي يتحرك به مقدار عقلة اصبع . انه لا بد أن يعترف بأن ( صبغة ( الوجه هي في الواقع المشكلة بأسرها ، أو يخسر قضيته بالصمت.
و قبل ذلك قال شاعر زنجي امريكي عن ( حرب ) الأسود والأبيض :
(أنها تشبه لعبة الشطرنج
قتال دائر بين لونين ...
ولكن الوقت وحده يموت . )
وعندما تصبح الحرب مجرد لعبة ( لقتل الوقت ) ، تصبح أيضاً خالية من الهدف ، أعني حتى اذا امتلأ مسرح القتال بالجثث فان المتفرج لن يرى في الخارج سوى ( العبث ) وحده . هذا فيما يخص قضية ( اللون ) . ولكن ماذا عن قضية ( الدين ) . فالعنصرية تضم هذه اللعبة أيضاً، وتضم (السماء) بجانب الأرض. وتستطيع أن تجد لنفسها معركة أكثر اثارة بشأن (الحصول على مكان أقرب الى الله ) ، أعني كما حدث طوال التاريخ الانساني الباعث على الخجل ، وكما يحدث الآن في اسرائيل . فهل يستطيع (الشعر) أن يكتشف أبعاد الحماقة في هذا المسرح المنهار أيضاً ؟.
- انا اقول : أجل
فالعنصرية الدينية من الداخل مجرد شكل متناهي البساطة لمشكلة اللون وحده.ان الدين نفسه ( فکر ملون ) ، أعني مثل شعاع الشمس الذي يسقط على تفاصيل العالم ويعكس ألوانها المختلفة في الخارج، ولكن شعاع الشمس يضم ( جميع ) الألوان ، وكذلك الله
- هذه نقطة النقاش هنا .
فالفرق بين الأسود والابيض أنهما يعكسان شعاع الشمس بطريقة مختلفة واذا غابت الشمس وانتهت لعبة الشعاع المرهقة اختفى ( الفرق) بين الاسود والابيض في الظلام لانه (فرق) طارىء ، ولانه مجرد وهم على سطح الاشياء. وكذلك الأمر بالنسبة للدين).
فنحن نختلف في اللغة، وفي نصوص الكتب المقدسة، ولكن اختلافنا مجرد حادث طاری فوق السطح وحده ، أعني مجرد اختلاف في ( أصوات ) الكلمات ، فأنت تدعو الهك (يهوه) وأنا أدعوه (الله) ، ولكن الاسمين معاً يعنيان شيئاً واحداً ويضمهما معاً شيء واحد . هكذا
کما يضم شعاع الشمس لون علم اسرائيل ولون راية الثورة .
- الأمر بسيط الى هذا الحد.
والنتيجة مذهلة الى هذا الحد أيضاً . فأنت عندما ترى حقيقة الاختلاف من الداخل، ترى أيضاً أنه يحدث على السطح، وانه قتال دائر بين لونين ، وانه لا فرق على الاطلاق بين مشكلة الاسود والابيض وبين مشكلة أبناء الله المقدسين في اسرائيل ( وعبيد) الله الآخرين أنهما معاً ( فكر عاهر ملون ) .
ويبقى بعد ذلك الله والانسان. وتبقى اسرائيل معلقة على طرف السؤال المميت :
(..الأن وجهك أبيض
ولأن وجهي أسود سميتي عبدا ؟..)
أو بصيغة أخرى تليق بملفات الامم المتحدة المهيبة السمعة (ما هو الخط الفاصل بين موشي دايان وبين یاسر عرفات ؟ ) ، والاجابة ما تزال مستحيلة من هنا، أعني حتى بالنسبة لرجل فصيح مدرب بكفاءة على ركوب لسانه مثل الوزير (ابا ایبان) ما تزال الاجابة مستحيلة من هنا . فالفرق بين موشي دايان و بين ياسر عرفات فرق في ( الصبغة ) وحدها . اختلاف على السطح المضحك للكلمات ، وعندما ولدا معاً لم يكن ثمة فرق بينهما على الاطلاق ، ولقد ولدا عاريين أخرسين وسوف يموتان كذلك أيضاً . والفصاحة وحدها لا تستطيع أن تغير هذه الحقيقة بمقدار عقلة اصبع .
- ان السياسة العربية لم تكتشف أبعاد قضيتنا داخل هذا الاتجاه لانها تمارس بدورها لعبة ( الفكر الملون) ، ولكن الشعر العربي الذي جاء من الارض المحتلة ومن خيام اللاجئين لم يرتكب نفس الخطأ ، ولم يترك فرصته المذهلة في (كسب) جولة النقاش على الاقل تذهب هباء في صراخ الاذاعات. لقد وجد طريقه منذ أول يوم ، وأضاء حقل المعركة المرهقة بانسانيته الخالية من الالوان والاصوات ، وحقق وحده نصراً شبه واضح داخل جدران اسرائيل. ولعل محمود درويش الذي ( يعيش) في اسرائيل نفسها تجسيد حقيقي لشكل هذا الانتصار ، فالحياة مع اليهود) عمل مختلف كلية عما تستطيع أن تحققه السياسة العربية تحت كل الظروف . انه ترجمة صاعقة للكلمتين الصاعقتين ( ليس ثمة شيء آخر سوى الله والانسان )
- هذه المقدمة ألجأ إليها هنا لكي أقدم لكم ديوان شعر صغير الحجم لشاعر آخر اسمه ( زیاد نجیب ذبیان ) فهذا الديوان أيضاً يستطيع ان لدينا مشكلة معقدة فيما يخص ( مهمة التعبير عن سياستنا العربية ) تجاه فلسطين . انه يأتي من رجل فلسطيني ، ويأتي خالياً من (الألوان) الى حد مرهق حتى ان كلمة ( عربي ) لا ترد فيه سوى مرة واحدة ، أما كلمة ( مسلم أو مسيحي أو يهودي ) فانها لا ترد على الاطلاق ، والمره يحتاج بالطبع إلى أن يلفت النظر الى ان (الخلو من الفكر الملون) اتجاه انساني محض ، يعمل بموجبه الشعر الفلسطيني وحده ، ولا علاقة له بأقوال اذاعاتنا . ولا علاقة له بمؤتمر القمة (العربي) أو مؤتمر القمة ( الاسلامي) ، ولاعلاقة له بتفاصيل القضية المحفوظة في ملفات الوزراء. انه اكتشاف شعري لابعاد المأساة من الداخل، ولكنه بالتأكيد شعر يخص فلسطين .
وعندما يقول :
(اعطني شربة ماء . ورغيفاً يابساً ، لا شيء أكثر
فأنا كل مساء
لي طعام .. لي سكر .
في طريقي نحو أرض شعبها يوماً تعثر
وهو من عامين ينهض
وهو من عامين يسهر)
هنا يبدو البناء اللغوي بأسره ساذجاً الى حد لا يصدق ، فكلمة (سكر) لا معنى لها في الواقع سوى أنها نشد أزر القافية ، وكلمة ( تعثر ) تعبير غير معقول عما حدث لشعب فلسطين ، وتكرار (وهو من عامين) عمل مضحك، لأن المعركة لم تتوقف مدى عشرين عاماً كاملاً، على الاقل بالنسبة لشعب فلسطين نفسه ، وبقاؤه في الخيام كان أكبر معاركه على الاطلاق . ان شعباً آخر في تاريخ العالم لم يصمد في خيام ممزقة عشرين عاماً كاملة سوى شعب فلسطين ، ومن المؤلم ان يعجز ( الشعر ) عن ملاحقة هذه الحقيقة العميقة الغور.ولكن الرؤية الصادقة تمنحه حاجته من العزاء عندما يقول :
(لاست سكيناً على عنق النساء
لا ولا ذابح
اماء
أطفال ، ويباع إماء
أنا انسان بكفي بندقية
وانا عمري قضية .. )
فمن الواضح هنا ان الصورة بأسرها (براءة ) واضحة من الفكر الملون واعادة للقضية داخل نطاقها الانساني العظيم ، واذا كان البناء الشعري ما يزال ساذجاً ، فأنا أعتقد أن ذلك عمل يخص تجربة الشاعر في التعامل مع كلماته . انها قضية جانبية تخصه وحده. وما دام ( يجد ) السكر في القتال لاستعادة أرضه ، وما دام السكر مادة حلوة على أي حال ، فلا بد أنه يعني أن الموت حلو المذاق بالنسبة له . وسواء كانت هذه الصورة عملاً شعرياً ناجحاً أو مجرد محاولة قاسية للتعبير عن عجل، فالقضية أصلاً لا تخص الكلمات .
وأنا هنا أتابع قضية (الفكر الملون وحدها)، وأريد أن أضع بين أيديكم هذا الاتجاه الذي ينطلق فيه الشعر الفلسطيني المعاصر بعيداً عن حماقات مسرحنا القديم . ان زياد نجيب ذبيان مهما بدت تجربته الفنية قصيرة المدى لم يفشل في اكتشاف البعد الشعري النهائي لقضيته المرهقة. ( فلسطين مشكلة انسانية .. لا علاقة لها بالعرق أو اللون أو الجنس أو الدين ) ، والدفاع عنها كفاح إنساني متناهي البساطة من أجل شرف الإنسان نفسه . والمعركة واضحة النتائج على أبعد مدى . ولكن صياغته تظل ساذجة في مواجهة هذا العمق المذهل . انه يعتقد أن ( المعركة ) هي الهدف ونسى أن (فتح الباب ) وحده هو الهدف سواء بالمعركة أو بغيرها :
(لا شيء في الانجيل في القرآن ،
في لوح الوصايا العشرة
لا شيء الا المعركة
يدعونه حياة
فكل نفس مشركة
ان لم تر الحياة
طالعة من معركة.)
هذه الرؤيا المتناقضة مجرد ترديد لأقوال الصحف عندنا فوق السطح ولكنها من الداخل تبدو واضحة ، ان الشاعر لا يستطيع أن يزعم بالطبع ان (الحرب) هي الحل الوحيد لكل أن مشاكلنا في فلسطين ، فالواقع أن (الحرب) اعلان لنقص الحلول فحسب،والقضية ما تزال معلقة أمام الضمير العالمي السياسي (ما هو الفرق بين موشي دايان و بین یاسر عرفات؟) . اذا كان الفرق هو (الله) ، فكيف تنتج الحرب عن هذه الاجابة ؟ واذا كان ثمة فرق آخر فلماذا لا يعلنه أحد ما ؟ وفي انتظار البحث عن حلول هذا اللغز ليس ثمة ما يمكن أن يراه ( شاعر فلسطيني) سوى المعركة . يراها في السياسة وفي الدين أيضاً على حد سواء . وأنا أقول ان هذه الرؤيا متناقضة لان الشاعر يعرف ان أول الوصايا العشر تقول (لا تقتل) وان موشي دايان يخالف هذا النص الصريح في كتابه السماوي، وان المعركة ليست نتاجاً من السماء بل فضيحة في الأرض أي لعبة ( سياسية ) وليست دينية رغم كل ما يقال عن (يهودية اسرائيل) .
- وفي أول قصائد الديوان - التي تحمل عنوانه أيضاً لتحترق الحدود .يتورط الشاعر في ( معركة جانبية مع السلطات اللبنانية فيما يخص قضية عبور الحدود ويقول لهم :
ليس لنا رصاصة بنارها نجود
بنارها تحرق اسرائيل تمحو عارنا
الا من الحدود
فكيف تزرعون في طريقنا الالغام
وكيف تنشرون في وجوهنا الظلام
يا سادتي .. يا سادة المذياع والكلام
وسادة الجرائد المأجورة الافلام
أنا تريد منفذا
فلتحترق يا سادتي الحدود)
والقصيدة بأسرها خطبة عاجلة مقامة على سطح خطابي ساذج يشبه تعليق الاذاعة على الانباء، ولكنها أيضاً رؤية (صادقة) غير ملونة ، والشكل الفني كما قلت من قبل - مشكلة تخص الشاعر وحده أنها ستقرر مصيره بين قرائه، وتضعه في المكان الذي ( دفع ثمن الوصول اليه بالمعاناة) غير أنها لم تغير شيئاً من القضية الاصلية . ان (صوت ) المحامي لا علاقة له بالعدالة .
والرؤية الفنية (منحة) لا تتوافر عادة لاصحاب القضايا الكبرى. ان الزمن يخز عيونهم كما تخزها الابر والعمل الخالص للفن يبدو لهم أحياناً بمثابة اضاعة للوقت . لكن ذلك لا يعني على الاطلاق ان سذاجة الصباغة هفوة يمكن أن يجد لها المرء عذراً على الدوام .
بعد ذلك أنا أردت أن أشير هنا الى ( قضية ) فكرية خاصة تبدو بوضوح في معايشة الشعر الفلسطيني لابعاد محنته الفكرية المعاصرة ، وأردت أن أقول ان التجربة تبدو رائعة في انتاج محمود درويش بالذات، وتبدو حسنة في انتاج بقية المناضلين بقوة كلماتهم فيما يخص ( شكل الصياغة ) . أما فيما يخص ( صلادة المنطق ) فانها متكاملة في انتاجهم جميعاً على حد سواء . وهي الفرق الحقيقي والحاسم بين ما تعلمه انسان المنطقة عبر محنة فلسطين وبين ما نسيت السياسة أن تتعلمه حتى الآن.
ان الشعر القادم من الأرض المحتلة ومن خيام صوت غاضب من أجل حق انساني متناهي البساطة والعمق ولكن غضبه ليس قبيحاً ، ولا يستطيع أن يبدو قبيحاً مهما خلت (صياغته) من الشكل الفني المطلوب في درجة الرؤية الحقيقية. انه صوت غاضب وعادل ، وهذا كل ما يهمني في أي صوت . فأنا أعرف أننا سنعود الى فلسطين حقاً ، وليس ذلك مجرد كلمة تقال في جريدة الصباح .
سيعود اليها انسان العصر المفتوح العينين الذي ترك لعب المهرجين جانباً ومضى ينشد (الأصل) وحده . مضى يحمل بندقيته لكي يفتح الباب لا لكي یکسره .. مضى كما قال محمود درويش ذات مرة يهدم بيتاً لكي يبني وطناً دون أن يدري .
ان العودة لا بد منها ، ولكنها هذه المرة ليست ( عودة الى الوراء) ، وليست فتحاً لعاصمة السلطان وسبي جواريه ، وليست قتالاً من أجل الفروق المضحكة على السطح . انها قتال لالغاء الفروق والعودة الى الاصل . أعني العودة الى الامام .
وذلك وحده هو ( العدالة ) .
(سبق نشر هذا المقال في مجلة جيل ورسالة)
نرحب بتعليقاتكم