📁 آخر الأخبار

أين تذهب هذا المساء..؟ للصادق النيهوم

أين تذهب هذا المساء..؟ للصادق النيهوم

 



أين تذهب هذا المساء..؟ للصادق النيهوم

يشاع عن بنغازي - ام اليتامي - أنها مدينة الكساد ، وان الموتى يمشون في شوارعها في وضح النهار ، ويشاع عنها ايضاً أنها "غولة مدينة" ، لان بنغازي الحقيقية ماتت مقتولة في الحرب والاشاعة بالطبع تتسرب إلينا من مصادر الدعاية المضادة التي تهدف الخدمة الصهيونية والنوادي الليلية في اثينا على حساب غولتنا ، ولكنها - للأسف - تلقى قبولاً واسعاً بين صفوف مواطنينا البسطاء حتى أنه تردد اخيراً - بهدف الإيحاء النفسي - أن أحد الأطفال الليبيين ولد مكفناً.  تلك الكذبة غير المعقولة التي لا تعني شيئاً في الواقع سوى ان إحدى مواطناتنا وقعت تحت تأثير الحرب النفسية وبدأت تخلط بين سجل المواليد وسجل الوفيات .
  • لكن بنغازي ليست مدينة مملة، أعني ليس إلى هذا الحد على الاقل . وإذا كان المرء يسمع احياناً عن حدوث بعض الخوارق في الازقة الخلفية، او خروج أحد الموتى من قبره المعترف به، لكي يزاحم مواطنيه على صلاة الفجر، او اصرار ملك الجن على احتلال احد بيوت دكاكين حميد، دون اذن من مصلحة الاملاك، معتقداً ان الدنيا عندنا فوضى ، فان ذلك لا يعني شيئاً في الواقع سوى ان بنغازي التي تعتبرها الدعاية المضادة مدينة ميتة - ما تزال تعج بالحياة من تحت و من فوق .


    هذا وجه الحق. وتموت الدعاية المضادة بعد ذلك بغيظها ، وتموت اثينا أيضاً . فأسطورة الكساد لا تستطيع أن تقف على قدميها في مدينة مثل بنغازي ينقلب عاليها سافلها الف مرة كل يوم، ويستطيع المواطن فيها ان يجلس على عتبة الباب الجواني عاماً كاملاً ويتسلى بمشاهدة ملك الجن يتمرغ في الحرارة .
اعني ذلك لا يحدث في اثينا، حتى اذا دفع المرء وزنه ذهباً، حتى اذا قضى كل عمره يتسكع بين بالوعات اليونانيين ، فانه لن يرى قط ما
يستطيع ان يراه مواطننا في فناء بيته . واذا تصادف بطريقة ما ، وخيل اليه تحت تأثير الويسكي في النادي الليلي ، انه رأى ملكاً جنياً ، فان الامر عادة مجرد نمرة مملة يقوم بها احد المهرجين مقابل سبعين دراخما، اما عندنا في بنغازي فان الملك حقيقة واقعة الى حد الموت ثم انه لا يتقاضى قرشاً واحداً مقابل اتعابه
  • هذه واحدة .
    واذا تعب المواطن عندنا في الفرجة على الملك في فناء بيته ، فانه يستطيع هكذا - في غمضة عين - ان يستدير للجلوس على عتبة الباب البراني وينعم بمشاهدة غولة المنطقة، التي تقف على اهبة الاستعداد، لتلبية نداء المتفرجين في كل الاوقات . وسوف يكون بوسعه ان يرى جاره الميت يخرج للوضوء في الخربة المقابلة، ويرى جاره الآخر يركض امامه بدون رأس في غمرة تسرعه لتلبية النداء ، ويرى شيخ المحلة - الذي مات بالكساد - يلوح له من وسط الجنة في حشد من الحوريات، ویری الحاجة امدللة تشرب حصتها من النبيذ بعد سنوات الحرمان في دار الفناء . ويقضي عاما كاملاً كاملاً في الفرجة على اشباح المنطقة . ويقضي كل سهراته بالمجان وسط برنامج حافل تتضاءل بجانبه كل برامج النوادي الليلية في أثينا .
ان ذلك لا يتوافر قط في اية مدينة اخرى . اعني حتى اذا دفع المرء وزنه ذهباً ، فانه لن يرى قط ما يراه مواطننا على عتبة الباب البراني في اي شارع في بنغازي ، واذا كانت بعض الاشباح تظهر احياناً في بقية المدن الاخرى - وخاصة في اثينا - فانها في الواقع لا تصلح للتسلية بأي حال ، لانها تظهر وتختفي في غمضة عين، كأن وراءها ما يشغلها دائماً ، ثم انها لا تظهر بدون رأس ، اما عندنا في بنغازي فان الامر يختلف كلية ، وكل اشباحنا ليس لديها ما يشغلها، وكلها تخرج في جميع الاوقات وتتحدث معك وتنزع لك رؤوسها وتقول لك: "بخ" ، وتصلي معك الفجر..!!
  • وذلك بالطبع بدون مقابل، فميزة بنغازي عن بقية مدن العالم، انها مدينة لقضاء السهرة بالمجان. اعني بالنسبة للمواطن والسائح على حد سواء ،فليس ئمة ما يستطيع المرء ان يفعله بمحفظة نقوده هنا، انه يتركها عادة في البيت، ويخرج للفرجة على الاشباح . واذا كانت الاشباح ليست كافية ، فانه يستطيع ان يخطف رجله الى زاوية المرابط المجاور ويتفرج على الشيخ منقلب امامه الى سبع .
    والتكاليف في الزاوية، لا تتجاوز عادة قرشاً واحداً ثمن فنجان القهوة ، اعني اذا كان المرء قد تعود ان يبذر نقوده في شرب القهوة ، اما اذا كان مواطناً معتدلاً ، فانه يستطيع ان يشق طريقه في الزحام، ويصل الى مقاعد الصف الأول معتمداً على كتفه ويتفرج بالمجان ..
واذذاك سيرى بعيني رأسه مالا يراه اي مواطن آخر، في اية مدينة اخرى بميزانه ذهب ، وسوف يشاهد شيخ الزاوية يتخلى عن انسانيته طائعاً وينقلب الى سبع، ثم يرفع مخلبيه في الهواء مستعداً للانقضاض على الشيطان، الذي لا يستطيع المرء ان يقاتله، ما دام مجرد انسان مفتقر الى المخالب ، فيما ينقلب بقية العيساوية الى ثعالب من باب التواضع، ويسندون ظهورهم على جدار العرين، تاركين المسرح للاسد وحده . هذا العرض المثير يكلف المواطن عندنا ثمن فنجان القهوة ، ولا يستطيع المواطن في أثينا أن ينعم بمشاهدته حتى بزجاجة شمبانيا . واذا اتيحت له فرصة ما لكي يشاهد عرضاً مماثلاً في احد الملاهي السياحية، فان الشيخ عادة مجرد ممثل لا تربطه اية علاقة بالمرابط ، ولا يستطيع ان يحقق شيئاً مجدياً في نهاية المطاف، سوى ان ينقلب الى فأر او مخلوق صغير من هذا الحجم . اما الاسد فانه بالطبع بضاعة خاصة تباع في بنغازي وحدها التي يقال عنها في مصادر الدعاية المضادة أنها مدينة الكساد .

    وبعد مشاهدة الاسد والثعالب، يستطيع المواطن عندنا، ان يعرج في طريقه على سوق الظلام، وينعم بالظلام ومشاهدة اشباح الجنود الايطاليين الذين حصدتهم طائرات الحلفاء في الحرب الماضية ، ويتبادل الشتائم بشأن الاستعمار ، ويتمتع بالشماتة فيهم ، ثم يذهب الى شارع  بوغولة ، بعد منتصف الليل ، ويشق طريقه وسط الاشباح الى المسجد نفسه الذي يصلي فيه صاحب الشارع بدون رأس .. اعني اذا كان المواطن يرغب في متابعة السهرة .. اما اذا كان يملك ثمة ما يفعله في الصباح ، فانه يستطيع بالطبع ان يعود الى بيته موقناً من ان بنغازي لن تحرمه من حصته على اي حال ، وانه سيجد في الطريق ثمة من يخبطه بحجر على ظهره، او يتظاهر بالرغبة في اشعال سيجارته ثم يقول له : "بخ"
  •  هكذا السهرة مستمرة في المدينة . التي تدعى ظلماً بمدينة الكساد .
 لا احد يفوته نصيبه . لا أحد يحتاج الى محفظة نقوده كل شيء عندنا بالمجان، وكل مواطن يملك حقه كاملاً في تذوق متعة الحياة داخل 
مدينتنا بين الموتى والاحياء على حد سواء، دون ان يضطر الى بعثرة نقوده في شراء التذاكر، وزجاجات الشمبانيا . يستطيع ان يوفر على نفسه اقتراف تلك الفضيحة ريثما ينال اجازته ويهرب الى أثينا او القاهرة أو بيروت او اي مكان آخر يصلح لارتكاب الفضائح و اتفاق النقود .
اما عندنا في بنغازي فالحياة بالمجان.
واذا تعب المواطن من مشاهدة ملك الجن والمرحومة الحاجة امدللة التي تتسكع كل ليلة امام بيته في صحبة الرجال السماويين ، فانه ما يزال قادراً على انفاق السهرة دون محفظة نقوده في صلاة التراويح او في "سهرية جاره الميت".
ذلك في متناول الجميع اعني سهرية الجار الميت ، فالمرء لا يحتاج الى ان يعرف المرحوم شخصياً لكي يسهر على حسابه ، انه يستطيع ان يحتل مقعده على اول كرسي يصادفه ويرفع الكلفة على الفور ويتحدث عن اسرائيل او اية فضيحة تخطر بباله يكون قد اقترفها مواطن آخر . وعندما يدركه التعب يعود الى بيته ويقابل المرحوم في وسط الزقاق ، ويتبادل معه قذف بعض الاحجار . اعني هكذا الدنيا والآخرة وجهاً لوجه في مدينة بنغازي، التي تدعى ظلماً بمدينة الكساد . فاذا كانت السهرية لا تكفي ولا تكفي التراويح او الاشباح أو الاسد والثعالب ، أو الحاجة امدللة واصدقاؤها السماويون ، فان المواطن عندنا ما يزال يملك ام كلثوم .
واذا كانت تلك السيدة الصبورة لا تكفي فان المواطن المدلل يستطيع ان ينام بالطبع ، لان النوم اصلا ليس عيباً ، أو يطارد حرمه فوق السدة باعتبار ان الحياة ليست كلها متعة خالصة او يذهب لقراءة البغدادي بقيادة شيخ المحلة ، او يفتح لنفسه نافذة على العالم ويشترك في سماع الهلالية لكي يعرف على الاقل ما يحتاج الى ان يفعله اذا دعته الظروف لاحتلال القيروان .
  • ان فرص السهرة مفتوحة للجميع وليس ثمة مبرر لوقوعنا تحت تأثير الدعايات المغرضة القادمة من المدن الأخرى ، فاللعبة كلها مجرد مناورة لجر رجلنا الى الجحيم عن طريق اقتراف الذنوب ، أنهم يحسدوننا على طهارتنا .
 هذا كل ما في الامر ، ولكننا نستطيع ان تفوت عليهم اهدافهم البذيئة بقليل من الصبر . ففي بنغازي - وفي مكة المكرمة - ايضاً يولد الانسان لكي يذهب الى الجنة هكذا على مشهد من جميع حساده مباشرة  يولد الانسان هنا وفي فمه ملعقة من ذهب وقليل من بصاق شيخ المحلة، ويوضع تحت حراسة عين الله التي لا تنام منذ يوم مولده على يد القابلة الى يوم وفاته على يد شيخ فقهاء المستشفى الحكومي .
  • بنغازي - الجنة ، تقول تذكرة الميلاد عندنا . ليس ثمة سيئة واحدة في الطريق، ليس ثمة ذنب واحد يستطيع المرء أن يقترفه بالنظر الى وجه امرأة أو كراعها او باللهو في الحديقة العامة وقراءة كتب النصارى في المكتبات المشبوهة او بالخروج مع حرمه لقتل المواطنين بالحسد او بسماع  اعمال الشيطان الموسيقية في النادي الليلي.
  •  ليس ثمة ذنوب .
انت تولد هنا بضربة من الحظ الحسن، وتعيش هنا حتى تدهسك احدى عربات الروميس، او تغرق في بئر النملة خلال العطلة الصيفية. وبعد ذلك يحملك احبابك للقاء ربك ويطردون روحك من البيت باقامة العزاء ثلاثة ايام وثلاث ليال ويذبحون النعاج احتفالاً بخلاصك من
بنغازي .
وإذ ذاك تستطيع ان تقترف ما تشاء من الذنوب ، وتستطيع ان تشرب نهراً كاملاً من البوخة، وتطارد الحوريات وتلهو مثل سكان أثينا دون ان يجرؤ احد على مضايقتك ، فأنت تستحق اذ ذاك ان تقبض اتعابك مقابل حياتك في بنغازي .مقابل حمولة العمر من الكساد 

(سبق نشر هذا المقال في مجلة جيل ورسالة)






صحيفة المنظار الليبية
صحيفة المنظار الليبية
تعليقات