📁 آخر الأخبار

من وراء المحاريث..للصادق النيهوم


من وراء المحاريث..للصادق النيهوم

من وراء المحاريث..للصادق النيهوم



احدى سمات هذا العصر البارزة،انه فترة تغيير جوهري في موقف الفرد من المجموعة .. فترة صراع مدهش لإقرار المكان النهائي الذي سيقف فيه إنسان العصر القادم تجاه أفكار العالم الصلد . فقد انتهت لعبة الفلسفة القديمة ، وتعلم الإنسان كل الحيل المطلوبة لكي يصير حاوياً في السيرك وينال أجره مقابل ان يبتلع أمواس الحلاقة ويخرج الارنب من
قبعته.
ومنذ بضعة قرون كان الملك خوفو يجر مزارعي القطن من أنوفهم لكي بينوا له هرمه ، والآن يبني المزارعون سدهم العالي ، ولو جاء ، خوفو مرة أخرى صادروا ممتلكاته بدون ضمان وجعلوه يبيع القول للسواح ، فالمعركة كسبها الإنسان وحده، وبضاعة الفلاسفة التي عرضوها دائماً الخدمة الفرد ، تعفنت في السوق و أكلها الصدأ والنمل، عبر أربعين قرناً محزناً تمتد بلا انقطاع من ازقة ممفيس الى قصر السلطان في إسطنبول ، ذلك الخاقان المدهش الذي ذبحه جندي برتبة كوبرال وعلق جثته ، المقدسة ، في الشمس .
والعالم لم يعد ملكاً خاصاً لاحد الأفراد أو الشعوب .
ولم يعد عقاراً تصدر رخصته من البلدية الموقرة. ولكنه - من ناحية أخرى - لم يكتشف طريقه بعد .
ولم يصبح "عالماً فاضلاً" من اي نوع. انه ما يزال حقل اختبار للتجربة الحاسمة التي نعيشها الآن .
    المعسكر الرأسمالي يقصر تجربته على الديمقراطية، ويحاول جاهداً أن يحقق لحظة التناسق بين اهداف الافراد لبناء المجموعة ، المثالية ، ولعل الولايات المتحدة هي أكبر حقل في تاريخ العالم لتجربة الحكم الديمقراطي بمعناه الحديث ، وقد تحققت في الكونجرس وفي شوارع شيكاغو ولاس فيجاس كل احلام الانسان المتوهجة عن الحرية الفردية ، وزاول الامريكان، حياة مدهشة من جميع الوجوه صاعدين فجاة من نكسة الحرب الاهلية والمجاعة العامة الى قمة العالم مباشرة عبر مسيرة حافلة بالانتصارات ، وقد نال الفرد في امريكا كل حاجته من الحرية والخبز ، ونال فرصته كاملة لكي يصعد من أي مهنة شريفة الى مقعد الرئاسة في البيت الابيض دون ان يعترض احد طريقه بوسيلة غير ديمقراطية .. ومع ذلك فان أمريكا تواجه الآن ازمة مربعة لانقاذ هذا النظام من الموت ...
الشركات تأكل الشركات، والمنظمات القائمة على الأفراد تتحول الى كتلة صلدة ذات نوايا دكتاتورية حادة، والفرد نفسه يتحول الى مسمار صغير في آلة عملاقة لا اهداف لها سوى سحق أكبرعدد ممكن من الخصوم للحصول على مزيد من السلطة . وهذا النظام المحزن ينشب مخالبه في جسد الأمة بأسرها محدثاً دماراً فظيعاً لكل الخلايا المهمة والأصلية على السواء مثل أي سرطان حقيقي . الحرب في كوريا . وفي فيتنام وكوبا والهند الصينية ومئات المؤامرات المخجلة ودسائس السياسة والجواسيس والقنابل الذرية . كل ذلك مجرد دلائل متفاوتة الحدة للاشارة الى فساد النظام الأمريكي وعجزه عن الخروج من منطقة الخطر القديم. تماماً كما عجز نظام خوفو عن الاستمرار في البقاء وأكله الصدأ والنمل منذ بضعة قرون .
    والفرد في أمريكا - رغم حقوقه المدنية وغناه الفاحش - ما يزال يعيش حالة "رق "، واضحة في قبضة الشركات ومصانع الاسلحة وتجار الانتخابات الاقوياء الذين لا يمكن تحديهم الا بنظام مغاير او بثورة مسلحة تهدف في الدرجة الأولى الى الغاء الحياة الديمقراطية
فالدائرة مقفلة تماماً.
    والرأسماليون الذين بنوا آمالهم على موهبة الأفراد، تحولوا الآن الى كتلة لا اجزاء لها .. كتلة صلدة من الشحم والدولارات والاسلحة تهدف الى ادماج اكبر عدد من الافراد الموهوبين في جسدها القاتل لتحقيق مزيد من الحجم دون اعتبار لقيمة الفرد ذاته ، ولعل هذه الحقيقة تتضح أكثر عندما يشير المرء إلى ما فعلته مصانع ادوات التجميل للانتى الأمريكية بوجه خاص فقد حولتها خلال نصف قرن من الدعاية المركزة الى دمية ملونة عارية خضراء الشعر لا هم لها سوى تقليد نجوم هوليوود المتفسخين واغراق جسدها بالألوان الفاتحة في بحث مرهق عن كلمة اعجاب من رجل ما . وليس ئمة من حقق ربحاً من وراء هذه اللعبة السيئة سوى مصانع ادوات التجميل أما الفرد فقد أصبح يواجه ازمة أخلاق مذهلة الابعاد ، وفقد الطفل الأمريكي أمه بصورة نهائية ليقضي طفولته في احدى دور الحضانة ، فيما ذهبت تذرع الارصفة بحثاً عن دكان الحلاق وبائع العطور وحمالات الصدر وصباغة الشعر والاظافر .
وهذا ليس كل شيء عن أمريكا ، ولكني مضطر الى أن اختصر هذا الحديث لكي أشير إلى ما حققه الشيوعيون في الطرف الآخر، فقد حاولوا بدورهم أن يحلوا المشكلة بطريقة مغايرة تماماً ، وانطلقوا بينون نظاماً معقداً لادماج الفرد ادماجاً نهائياً في جسم المجموعة، وافرغ لينين جهداً خارقاً لكي يخلق نظاماً متناسقاً من متناقضات العالم، معلناً لمواطنيه ان الروسيا لن تنهض من واقعها المؤلم الا اذا حملتها المجموعة بذراع واحدة في دفعة واحدة خالية من التردد . ثم جاء ستالين وأقام نظاماً بوليسياً رهيباً لخنق كل الاعتراضات الممكنة ، وعصر ، ملايين الفلاحين في مزارعه التعاونية وفي مصانع الأسلحة العملاقة مشيداً اكبر آلة بشرية في تاريخ العالم تعمل باتساق يفوق خلايا النمل عبر تكامله وارتباطه وراء كل التفاصيل .
    ومع ذلك فقد تورطت الروسيا في مئات الازمات الطاحنة ، وحاربت في جميع الجهات وقتلت من الناس اكثر مما قتل وباء الطاعون مئات المرات ، زاحفة وراء درعها الحديدي من شمال كوريا الى بودابست عبر معركة واحدة بالدبابات والجواسيس ، وما زالت تقاتل بكل الوسائل لإقرار نظام بوليسي على انقاض برلمانات الدول الصغيرة ، فالمشكلة - كما تراها الروسيا - لا يمكن حلها الا بالقوة وحدها.
وعلى طول العالم ترتفع الصواريخ . وتتفجر القنابل الذرية مثل ألعاب عيد الميلاد ، ويقبض الرؤساء رواتبهم الخيالية لابتكار مزيد من المؤامرات . ويتصارع المعسكران مثل ديكين مجنونين لفرض احد هذين النظامين على الآخر ، ويظل العالم الآخر يبحث عن
طريقه :
هل تنتصر الشركات ؟
هل تنتصر الشرطة الشيوعيون ... وهل ثمة طريق آخر لاقرار مكان ملائم للانسان ؟
هل يتحدد موقف الانسان تجاه مشاكل المادة كما تحدد موقفه تجاه الله في كتب الديانات ؟ وهل ينتصر الفرد أم المجموعة اذا بدأ الصراع الذري المرتقب ؟.
عصرنا الحالي مهمته ان يقررإجابة هذه الأسئلة
    وعصرنا الحالي فترة مدهشة مليئة بالافكار التي لم يعشها الانسان من قبل ، واذا كان ثمة أمل واحد لمواصلة الحياة في طريقها الطبيعي فهو ان يتقدم هذا العصر باجابة صحيحة قبل ان يبدا الديكان المحزنان في الشجار المسلح. أما المعادلة المطلوبة فهي غاية في اليسر : ( ( (كيف تستطيع ان نسخر الفرد لخدمة المجموعة لكي نسخر المجموعة لخدمة الفرد ؟ )
    وبكلمة اخرى : أين مكان الانسان في الكتلة الصلدة المطلوبة لمواجهة التطور المادي والروحي على السواء. ان الاجابة ليست صعبة فقط ولكنها غير متوافرة ايضاً .. فالعالم ما يزال في حاجة الى كثير من التجارب الحقيقية لكي يعرف على وجه الضبط ماذا تعني كلمة "انسان"؟...
    ولكن اذا اتيحت له فرصة ليعرف ذلك ذات يوم ، فسوف يضع يده على سلاح لا يمكن قهره لايقاف كل المؤامرات والقتلة والسلاطين وبناة الاهرام والمخبرين التعساء ويعيدهم للعمل وراء المحاريث ...
وفي ذلك اليوم سيجد العالم طريقه.
    ويكف الفلاسفة عن حرق صدورهم بالتبغ .. وينهض خوفو لكي يبيع القول للسواح .























(سبق نشر هذا المقال في مجلة جيل ورسالة)

صحيفة المنظار الليبية
صحيفة المنظار الليبية
تعليقات