📁 آخر الأخبار

مدرسة النيهوم ... للكاتب الراحل على الفزاني

   
هذا مدخل لدراسة الظاهرة النيهومية الفذة والتي اعتقد اني اعرفها اكثر من سواي وما دام بين يدي نتاجه الكامل تقريباً فاني اقدم هذا المدخل ، لما هو اكثر عمقاً من هذه المقدمة المتواضعة
    علاقتي بصادق النيهوم من ناحية أدبية تعتبر أوثق علاقة أثرت في تكويني الأدبي المتواضع .ومعرفتي الشخصية بهذا الكاتب الفذ حدثت بمحض الصدفة وذلك في عام 1965 م عندما كنت مسافراً الى القاهرة بطريق البر وكان هو بين المسافرين يجلس على مقعد أمامي وبين الحين والآخر كان يلتفت الى الخلف، فيما كنت أقرأ (أبيات ريفية) لعبد الباسط الصوفي. وقبل ذلك كنت أسمع عنه ولكني لم أره قط ولم يخطر يبالي قط أن هذا الشاب النحيل الطويل القامة، الشاحب التقاطيع ،هو صادق النيهوم . وعندما وصلنا مدينة درنه مساء دخلت مطعماً شعبياً، فجلسنا معاً على منضدة واحدة لتناول وجبة العشاء، وفيما كنا نتناول طعامنا قال لي : " لقد كنت أريد أن أقرأ قليلا في الكتاب الذي معك . وأجبت أن هذا الكتاب صعب ، قلت ذلك، وانا اقول لنفسي ماذا سيفهم هذا الانسان الأشعث الأغير من ديوان شعر معاصر . ولكن صادق أحس بذلك فقال لي : أليس هو ديوان عبد الباسط الصوفي ؟ وهنا وضعت الملعقة وسألته : هل أنت طالب ؟ فقال : نعم . ثم أردف ان الصوفي رائع وابتسم ابتساماته المعهودة وأخذ يقرأ قصيدة (مكاري) وكان يحفظها عن ظهر قلب.
واخذتني دهشة غريبة فقلت : ما الأخ ؟ فقال : صادق النيهوم . ولست أنكر اني صعقت. فقلت متلعثماً لم أكن أتصور انك صادق وبدأت صداقة فريدة بيننا .
    وفي الاسكندرية افترقنا وذهبت أنا الى القاهرة وذات يوم فوجئت به يدق الباب برفقة الزميل الرحالة على أبوزعكوك. وظللنا ثمانية عشر يوماً رفقاء كنت خلالها أرقب تصرفات هذا الكاتب الرائع . كان يقرأ تحت أكثر المواقف صخباً . والأغرب من ذلك كله أنه يغفو أحياناً وعندما يصحو يذكرنا بكل ما دار من حوار . واعترف باني تأثرت به تأثراً كاملاً في تصرفاته حيال الآخرين . ان الرجل قادر على أن يجعل أكبر مجرم في العالم يعود الى انسانيته . وهو قادر على تغيير اي رفيق ذي سلوك منحرف. وعندما عرضت عليه بعض قصائدي ، قال لي : « لا تجازف الآن بنشرها او طبعها ، ولكن لا تتوقف عن تسجيل أفكارك شعرياً واقرأ لمدة عام آخر . وتحدثنا عن هيمنغواي وباسترناك ، وغوركي ، وبوشكين ، وتوفيق الحكيم ، وطه حسين وعشرات الأدباء الآخرين والشعراء كالبياتي والسياب وغيرهما من الشعراء المعاصرين، كان صادق في تلك الآونة قد عين معيداً بالجامعة الليبية ، ثم أوفدته الدولة للتحضير في ( الدراسة العليا ) وذهب الى جامعة القاهرة ذات صباح ، ولكن يبدو ان عميدة الكلية قد وجهت اليه كلمة لاذعة، فما كان منه الا ان سخر منها على نحو لا داعي لذكره ، ثم ذهب في اليوم التالي الى الملحق الثقافي بالسفارة وقدم استقالته ورفض ان يأخذ مستحقاته وعبثاً حاول الملحق
الثقافي اقناعه فرفض . وقلت له يومئذ یا صادق خذ حقوقك المشروعة فأجاب غاضباً: ليذهبوا هم وبترولهم الى ( الجحيم ) وافترقنا بعد ان كتب لي عنوانه في جواز سفري وبدأت مراسلاتنا الادبية .
بعد ذلك بعام واحد التقينا بطريقة غريبة في القاهرة، ولست أذكر التاريخ ولكنه على اية حال لا يتجاوز بداية عام 1966م . كان صادق قد نضج تماماً ، ولكن يبدو ان الارهاق قد أخذ منه الكثير، لدرجة خشيت عليه وعندما واجهته بهذه الطريقة منه ، أجاب ان الموت ليس مشكلة ) . وذات يوم حاولت التجسس على مفكرته وهو غائب ، كان ثمة أشياء مذهلة لا تتعلق بحياته الشخصية بل بحياته الادبية. كان الرجل أكثر دقة مما كنت أتصور . انه يسجل أشياء تدل على دقة الملاحظة التي لا أجد لها تفسيراً : أسماء أدباء ، وكتب وصحف وعناوين موضوعات ومقالات من الشرق والغرب وأرقام تليفونات مكتبات والى جانب ذلك كان في جرابه دواوين البياتي وكتاب فلسفة باللغة الالمانية، وآلة تصوير .
    وافترقنا مرة اخرى . ولكن الاتصال بواسطة البريد هذه المرة بلغ عنفوانه . كنت أرسل اليه قصائدي وكان يرد بأسرع مما كنت أتصور . ومرة قلت له في رسالة : لماذا لا تعود الى ليبيا ؟ فرد علي قائلاً : ( ان في ليبيا أكثر مما في حانوت العطار) . وعندما هاجمه شيوخ ( الجامعة الاسلامية سابقاً) رسلت اليه العدد والمنشورين المضادين ، فرد قائلاً : " يا صديقي الزنجي الشديد الصلابة والحذق ان الذي يقول لك انك تسمم أفكاري برسائلك رجل كله أفعى ، وقد عضني مرتين ، وما يزال يعضني فلا تدعه يفسد اتصالك بي ، ولا تهتم بقوله قط . أما الفقهاء - أعني الشيوخ الذين يتبرعون بشتمي من أجل نعجة العيد ، فانهما مجرد عجوزين بائسين لا يملكان في هذا العالم سوى قوقعتين من النحاس الخردة ، وهما يعتقدان اني أهدف إلى ايذائهما في الداخل. ولعلي فعلت ذلك حقاً وانا آسف من أجلهما ولكني لن أتورط مع قوقعتين بائستين ، فانا يا صديقي أو من ايماناً ثابتاً بأن الدين ليس حرفة في وزارة الأوقاف، وأومن بان الله لن يقبل هذه اللعبة الى الأبد ، فالانسان سيجد طريقه ذات يوم وتفتح النوافذ على الشمس، وتعيش نعجة العيد كي ترضع صغارها رغم أنف الهلال ،
أما الردود الوقحة والشتم بآيات القرآن فهما مجرد عبث لا طائل من ورائه سوى اثارة المزيد من الوقاحة . واني يا صديقي لغاية في الدهشة من ان يفقد الفقهاء أعصابهم ويتحدثون عني بهذا الاسلوب المخجل . فالواقع اني رغم مساوئي لا أرضى بان اقول شيئاً مخجلاً إلى هذا الحد. نهاية المطاف انا سأغفر لهذين العجوزين ، وأتمنى علناً أن يغفر الله لهما بدوره .
    هكذا كان صادق الرائع يواجه المواقف يقلب طيب ولكنه كما قال لي مرة : انه ليس نعامة تدس رأسها في التراب . وكتب الي مرة قائلاً ان الحزن بضاعتنا جميعاً وصادق كا عرفته يواجه لحظات نفسية صعبة في غربته المملة عبر ليل هلسنكي الدائم وخاصة في فصل الشتاء عندما يصبح ( النهار ) أربع ساعات وتسع دقائق.فاقرأ هذا : « شيء آخر يا صديقي علي ، لو نقلت لك آلامي كما أحسها لو استطعت ان انقل لك مدى ما أعانيه من مشاعري المضطربة ، لو عرف أحد ما حقيقة آلامي لرحمني مثل حصان مكسور بطلق ناري حاسم. ولو مت لما افتقدني أحد سوى سيدي الحزن ، معذرة كفى ، أنا لا أجد ما أقول لك ولا أريد أن أضايقك بعالمي الغامض فاكتب الي كثيراً وحدثني كما تشاء لان ذلك بالضبط هو ما يستطيع ان يوضح لي طريقي وينقذني من وحدتي ويربطني بكم ربطاً مؤنساً .. الملاحظ من كل هذه الاحتراقات ان كاتبنا الكبير يعاني من جحيم ادراكه للواقع المأساوي الذي كانت تعيشه بلاده وكان ايضاً يعاني من صقيع الغربة فهو مشدود ثقافياً الى العــالم المتحضر وهو في الوقت نفسه مشدود الى التراب الليبي حيث مراتع طفولته . انه نهب مقسم بين العديد من الارتباطات الاجتماعية والثقافية .

صادق والنقد الأدبي

ان الاطلاع الواسع على الآداب العالمية في عدد من اللغات الحية أعطى صادق النيهوم فرصة هائلة لاستيعاب آخر المدارس الادبية واروع شيء بالنسبة لهذا الكاتب انه يملك قدرة خارقة على هضم ما يقرأ فضلاً عن ذاكرة حديدية تستحق دراسة مفصلة تدخل في علم  الابداع الفني . انه لا ينسى ما كتبه لك في السنة الماضية ثم ان اللغة لديه ذات قيمة ولدي رسالة نقد لهذا المقطع من قصيدة ارسلتها له تحت عنوان « الدوار ، والمقطع يقول " أرى الشعور بالحياة ، منتهى الحياة ". لقد كتب الي غاضباً وموجهاً قائلاً :  انا لا بد أن ألفت انتباهك الى أن المنتهى ، تسبق اسم ، تسبق اسم الصفة فقط فتقول : منتهى الشجاعة ، وتعني غاية الشجاعة وقمتها اما اذا سبقت الاسم المجرد فتعني نهايته مثل و منتهى الطريق ، أي آخرها ، ومنتهى الحرب أي نهايته. وقولك منتهى الحياة » يعني الموت . أنا أشك في ذلك . ولا يد أنك تقصد وغاية الحياة » . ولكن اللغة أفسدت طريقك رغم ان الخطأ نفسه شائع الاستعمال » .
والواقع انني قد وقعت في حيرة من هذا النقد الغريب . وبعد المراجعات المرهقة اكتشفت أني فعلاً مخطىء . وعندما قررت طبع ديواني الاول رحلة الضياع ، طلبت اليه ان يقوم بتقديمه للقراء فقال لي : أنا يسرني ان اكتب له مقدمة اذا كنت ستقوم بنشره الآن لاني لا أستطيع ان اقوم بدراسة حقيقية لشعرك حتى تتجمع لدي المادة اللازمة التي احتاج اليها وتتبين أنت طريقك النهائي . وهذا كله يحتاج الى وقت أكثر طولاً لكي ينضج .. ثم طلب ارسال المخطوط
فارسلته اليه . فكتب مقدمة صغيرة
تخص اثنتي عشرة قصيدة ، ورفض
الباقي .
المطر
ابتعد عن ذكر الأسماء .
نحن جميعاً يا صديقي ننتظر
انت شاعر قضية ومن المنتظر ان تعرض قضاياك على مستويات القضايا وتذكر رؤياك الشعرية كلما أدركك الغضب.
الشعر أبعاد واحتراق مرهق وراء غاية الكلمات فتذكر ذلك مرتين . البياتي قد أصبح شاعراً يخص التاريخ لأنه دفع الثمن . وأنا أتمنى ان تبدأ انت ايضاً عبر هذا الطريق فان الاحلام وحدها لا تكفي . وكذلك صديقي شاعر فاثبت ذلك فوراً أو مت وحدك ممتلئاً باليأس :
    وفي عام 1968 م التقيت بصادق في مؤتمر الأدباء الفاشل في طرابلس وتحدثت معه طويلاً ولكني كنت اشتم السخرية من تعليقاته العابرة وكان يجلس في احدى نوافذ مجلس الامة سابقاً ويدخن بشراهة . وعندما ألقى محاضرته عن آخر نظم التعليم مزودة بالصور ، هوجم من قبل أحد ( القواقع ) ولكن ردود الفعل من جانب المثقفين كادت أن تصيب ذلك ( البهلوان ) بسكتة قلبية.

صادق الثائر

    الثورة بالنسبة لصادق اكتساح مستمر لا يعرف التوقف ولكنه يجيد التوقيت كما فعل في سلسلة ( قليل من المنطق) انه يتعامل مع الظروف مثلما يتعامل الطبيب الحاذق مع المجانين والمتخلفين عقلياً. وأعظم صفاته انه لا يعرف ( الرياء ) لاننا قرأنا كل ما كتب عن معركة حزيران ، وقرأنا له عن فضائح البيت الأبيض ، ثم ان الكاتب الليبي من أكبر أعداء الاكاديميات ، وهو كما يقول لي في احدى رسائله : " فأنا مزقت أحذيتي في جامعات العالم وأعرفها كلهـا وأتمنى أن تنهار غداً"ز
    ان النيهوم لا يكره الجامعات ، ولكنه يكره ( الروتين المنهجي ) الذي يحد من سعة أفق الطالب ويحشره في نطاق معين ويجعل منه عبداً للدرجة الرابعة يجلس على مقعد أمريكي (هزاز)، والثورة بالنسبة للنيهوم ليست اصدار القوانين بقدر ما هي تغيير الافكار والتطلع النظري والعملي الى بعد غد وليس الى الغد فقط . انه يؤمن ايماناً مطلقاً بالتعليم المنتظم ولكنه لا يؤمن بالمناهج المحدودة الأصول . لقد قلت له مرة  في رسالة خاصة : ها انا أبكي ، وتنساب دموعي كلما مررت أمام الجامعة . . فأرسل الي يقول بالحرف الواحد : ( ان أحسن الرجال في تاريخ الحضارة لم يعرفوا قط أين تفتح أبواب الجامعات . هل أذكر لك بعض أسماء : اديسون جراهام بیل ، غاليليو ، نيوتن ،الكندي ، شكسبير ، شيلي ، بودلير،تشيخوف ، العقاد ، عبد الناصر،لامارتين ، دى بلزاك ، برناردشو،نوبل ، الفارابي،، ماو، بوذا،ماركس ، والله نفسه لم يذهب الى الجامعة . 
( وهذا هو النيهوم الذي حمل راية الثورة الفكرية ووضع البذور . بذور الرفض للأشياء الزائفة، وأرسى المدرسة المعاصرة في الأدب الليبي في كل مجالاته . والنيهوم ايضاً ملم الماماً تاماً بالتراث الشعبي الليبي ، وبتراث الشعوب الأخرى وأذكر أننا كنا مرة في النادي الأهلي المصري ، وكان ثمة ضابط تلقى تدريباً على الأسلحة في تشيكوسلوفاكيا وحصل على بعض المفردات اللغوية . ولما كان صادق كالعادة لا يعتني بمظهره ، فقد حاول الضابط ان يستعرض عضلاته بتلك المفردات القليلة . ولكن النيهوم فاجأه بان وجه اليه عدداً من الأسئلة باللغة التشيكية ، ولكن الضابط رد بالانجليزية معتذراً بانه لا يعرف سوى بعض المفردات المتعلقة بالاسلحة والمطاعم والملابس . وهنا رد صادق رداً في انجليزية صميمة قائلاً ما ترجمته ، لاداعي لان تنزعج فالحياة مدرسة دائمة. والغريب حقا ان صادق يتحدث الانجليزية وكأنه احد أقطابها.انه يجيد لهجاتها المختلفة وحتى هذه الساعة لا أعرف اللغات التي يجيدها ويتحدث بها، ولكني متأكد انه يجيد الانجليزية والألمانية ، والفنلندية الايطالية والفرنسية . وفي القاهرة تحدث مع بعثة من السواح الاسكندنافيين بعدد من اللهجات الغربية. وصادق دقيق الملاحظة لدرجة أوقعت مدير فندق حوريس في القاهرة في مأزق بشأن صورة سياحية بها خطأ فاحش.

صادق والقراء

    هناك حتى الآن ثلاثة من الأدباء العرب يحترمهم القراء وهم : أنيس منصور ، وعبد الرحمن بدوي وصادق أما في الغرب فان : جورج سارتون ، وتويني هما العلمان في العلم والتاريخ بالنسبة للمثقفين هناك .وصادق النيهوم يتعامل مع القارىء . العربي في ليبيا بذكاء غريب . انه يدرك ان المجتمع الليبي لا يحتمل عب الحضارة المعاصرة كدفعة واحدة ولهذا فهو يتعامل معه من خلال تقاليده ثم ينفذ الى موضوعه على نحو مذهل . وقبل الثورة مثلاً كتب مقالاً تحت عنوان : « سياف الخليفة ، ولم يفهمه القراء ، في الواقع ، ولكن ذلك المقال كان أخطر مما كنت أتصور - كان مقالاً سياسياً ، المقصود منه لفت انتباه القارىء الى سياسة القمع وقد استعمل النيهوم ( التاريخ المقارن  لأن(سياف الخليفة ) حقيقة واقعة عبر ثلاثة قرون في التاريخ العربي ولكنها أخذت هنا طابعاً مختلفاً وفقاً لظروف العصر . ( فالقطع والسيف ) ما زالا موجودين . أما قصة من مكة إلى هنا ، فهي لن تفهم قبل عشرة أعوام . ولا داعي للخوض في تفسيرها الآن.

الأسلوب

أسلوب الكتابة عند صادق فريد في الادب العربي المعاصر . فهو يتعامل مع اللغة بحذق . وعندما اقرأ مقالاته أشعر وكأني اقرأ في عدد من اللغات والترجمة عنده مثل (موت رئيس الجمهورية ) تشعر بأن ( صادق ) قد أضفى عليها من روحه أكثر مما يجب لأنه يتحاشى التقريرية والمباشرة وينفذ الى الوقائع متجنبا حرفية الموضوع، ذلك لانه يدرك ادراكاً كاملاً بان حرفية الموضوع مذبحة للفكر الاصلي ولعله قد تعلم ذلك من ( بيتس ) الذي يعلن ( ان الترجمة خيانة ) واذا كانت اللغة العربية في بداية هذا القرن قد وقعت في مطب ( الحرفية كما حدث مثلا مع( حافظ ابراهيم) في ترجمته الرائعة هوجو ( البوساء ) فان الترجمة المعاصرة لدى الشباب المتمكن من لغته الاصلية واللغة التي يريد ان يترجم عنها موضوعه، تتحاشى الحرفية، والنيهوم يضع نصب عينيه النقاط التالية عندما يريد ان يترجم فانه يختلف اختلافاً جذرياً عن الدكتور بدوي الذي تغلب عليه  الحرفية ، ثم ان صادق يفرق بين الترجمة في مجال التاريخ وبين الترجمة في مجال الادب او السياسة او العلوم ...ففي الادب قد يحشد المولف امثلة متداولة في البيئة التي يكتب عنها ومن ثم فان الترجمة الحرفية لا تودي الغرض المطلوب وهنا يقع بعض المترجمين العرب في أخطاء جسيمة والسبب أولاً وأخيراً أن هولاء الاصدقاء يعتمدون على القواميس التي تضع عشرة مترادفات مقابل مرادف واحد في أي لغة ومن هنا تتضح عبقرية النيهوم والمامه اللغوي المذهل فالقارىء الذي يجيد اللغة الانجليزية على نحو متوسط يستطيع ان يقرأ كتاب موت رئيس جمهورية في الاصل ثم يقارنه بترجمة الاهرام ثم يقرأ ترجمة النيهوم .

صادق وقضية فلسطين

    فيما كان المواطنون العرب يستقون معلوماتهم من الاذاعات العربية خلال حرب الايام الست ، كان صادق يتابع المعركة من هناك ، وكان يعرف كل الحيل عن طريق وسائل الاعلام المختلفة كالاذاعة المرئية والمسموعة والصحف والمجلات والاعيب الصهيونية الأخرى في كل انحاء العالم واذكر اني كنت قبل معركة يونيه 67 في مدينة لندن وذلك بالضبط عندما اعلنت الجمهورية العربية المتحدة التعبئة وكان الاسرائيليون قد استعدوا الخوض المعركة وجندوا الرأي العام العالمي في أوروبا بالذات ضدنا وعندما كنت عائداً إلى ليبيا ، تاخرت الطائرة الليبية لاسباب فنية بين باريس ولندن ، واثناء تناول طعام الغداء في مطعم الشركة تعرفت على شخص غليظ الجثة جهم التقاطيع كان ينتظر طائرة اخرى من المانيا بأنه تلقى تدريباً في الطيران وانه متطوع حتى الآن ولم ينته الحديث لان الطائرة التي كانت تقله إلى اسرائيل قد وصلت واعلنت عن الاقلاع ، وخسرنا المعركة بالطبع . وفيما بين الثالث من يونيو الى الحادي عشر منه استطاع
النيهوم ان يعلن حقيقة المعركة مزوداً مقالاته بالارقام والاحصائيات عن عدد الطائرات والقتلى وعن المأساة كاملة وقد نشر كل هذا في جريدة الحقيقة لقد كان صادق الكاتب الوحيد في العالم العربي الذي تجرأ بقلمه الجبار لفضح مساوثنا .لقد قال في مقالة له بالحقيقة نشرت
عام 1968  الآتي :
    هذه الروسيا لم تطلق أياً من صواريخها الذرية على اسرائيل كما تنبأت انت وقد خطب المدعو كوسيجين في الاسبوع الماضي وتطاير الشرر من عينيه حتى اضاء جبل القوقاز ولكنه لم يذكر شيئاً عن الصواريخ الجديدة التي قلت انه سيضرب بها قطع الاسطول السادس ولعلك ما تزال تعتقد ان كوسيجين رجل يريد الحرب بأي ثمن ، اما الثابت لدى معظم الناس  فانه لا يحب ان يتورط في اية معركة قبل ان يتم بناء قواعده السرية فوق سطح القمر والمعروف ان الروس اطلقوا سفينة فضاء جديدة خلال غيابك وذكروا خلال غيابك أنها مزودة بصواريخ لتدمير امريكا في حالة الحرب، هذه الاشاعة لم تسمعها انت في مكة ثم ينتقل إلى سياسة العزلة القائمة. قائلاً :
وقد قيل في المقهى اثناء غيابك ان العطاء الخامس بانشاء كوبرى الى اثينا قد سحب من المزايدة بعد ان اتضح لرواد المقاهي ان المرء يستطيع ان يحصل على نفس البضاعة من تونس وباسعار مخفضة للغاية الى جانب اتقان اللسان العربي مما دعا اصدقاءك الذين عادوا مكة هذا العام الى المطالبة بطرحمن عطاء جديد لانشاء سور حول تونس ،والمعركة ما تزال قائمة ، طرف يطالب بكوبرى الى اثينا وطرف يطالب بسور حول ليبيا . .
    ان فهم ما جاء في هذا المقال وفي غيره يتطلب فهماً دقيقاً لما يهدف اليه النيهوم ، فقضية فلسطين لا يمكن حلها الا بالتحام المنطقة العربية من جميع النواحي  الاسوار يجب ان تفتح على العالم والسدود يجب ان تزاح بين شعوب المنطقة العربية ، وهو منطق الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، وصادق لا يؤمن بالحلول الوسطى ويعلن صادق في ثورية عارمة قائلاً في مقاله العدو من الداخل 24-8- 68 - الحقيقة و ايها السادة ان اسرائيل لا تستطيع ان تقتلنا - نحن ميتون من الداخل ، ثم يقول في نفس المقال ( الشطرنج حرب بين جيشين من الخشب اعني مثل فلسطين مجرد معركة على الورق يديرها رجلان من الورق لقتل الوقت واطفال اللاجئين ) . ان الوقوف عند هاتين العبارتين يتطلب وقتاً وجهداً فالموت من الداخل عام 68 كان يشكل مجزرة هائلة في كل الاتجاهات و فموشی دیان ، علی عادة المرابين سيخرج من جيبه حفنة مريعة من الدبابات وفي لحظة تمتلىء رقعة الشطرنج بالدبابات الحقيقية والمدافع الرشاشة وطائرات الميراج والنابالم السيء الرائحة ويتفرق الرواد.مذعورين ويغص المقهى القبيح بجثث الاطفال اللاجئين السود العيون الذين لم تتح لهم قط فرصة قتل الوقت بالشطرنج ) .
    ولعل ابسط قارىء فهماً يدرك ما يريد ان يقوله النيهوم هنا والغريب ان هذا القول قبل عام 68 ومشكلتنا اننا مهرجون لا ندافع عن حقوق الانسان العربي في فلسطين ونسلب الانسان حقوقه داخل أراضينا واننا نبيع القرد ونشتم من يشتريه ، ونرفع اصواتنا بالبكاء على مصير اللاجئين ونعيش لاجئين داخل اراضينا ونبيع الكلمات بالمجان ثم نشتريها من صحفنا البلهاء مقابل رؤوسنا وان الانسان العربي الذي تطارده دوريات اليهود وكلاب الحراسة والشرطة والجواسيس في أزمة بيت المقدس لا يجد الخلاص عندما يرحل إلى مدينة يحكمها أخ عربي . مشكلتنا اننا اسوأ من اسرائيل .
     أعتقد انني ألقيت جانباً من الضوء على حياة صادق الاديب الكاتب المفكر ولقد كان الوقت ضيقاً جداً فهناك دراسة الزم في القرآن ، والعودة المخزية الى البحر والمجلد الكامل الذي بين يدي والذي اعاره لي الصديق ( عريف افرطة ( يلقي اضواء اكثر على النيهوم وكذلك رسائله الى الاصدقاء والنقاط الباقية و دراساته وقراءاته ونقده الادبي والاجتماعي والسياسي ومواقفه الشخصية بل ونكاته الشيقة.

(سبق نشر هذا المقال في مجلة جيل ورسالة)














صحيفة المنظار الليبية
صحيفة المنظار الليبية
تعليقات