صحيفة المنظار الليبية: مجلة جيل ورسالة
غداً أملك سبعة جنيهات
غداً اعود الى ليبيا واملك سبعة جنيهات واشتري حماراً مثل حمار يوسف النجار، وجراباً من التمر والنوى، واترك علامات المرور تقودني عبر قرانا عبر قرانا الصغيرة لكي أعبىء جرابين آخرين بأدبنا الشعبي ، ويطاردني الاطفال ، ويقولون هذا يوسف النجار.
ويطاردني الكبار ، ويتهمونني بأنني جاسوس ، وانني جئت لأغري ، نساءهم وأسرق غلتهم من الكاف . واهز لهم رأسي وآكل النوى واكتب كل ما اسمعه من أدبنا الشعبي ، حتى ينفق الحمار .
ثم أعود لاطبعه على الآلة الكاتبة !
وسوف اتعلم الطباعة باللمس، وضبط الهوامش في الظلام ، انا أعرف انني سأتعلم ذلك ، فالمرء لا بد ان يتعود الرؤية بلا عينين عندما
يعيش بين الحواة .
نهاية المطاف .
انا سأكتب ادبنا الشعبي ، وسأجمعه في حزمة من الورق واربه بخيط واتركه يتدلى في السقف لكي لا تأكله الفئران مثلي، فالفيران لا تعرف قيمة ادبنا الشعبي .الفئران يهمها ان تأكل اولاً ، وتجد عملاً في شركة المقاولات وتمارس الحب وانجاب الفئران .
وانا اريد ان اكتب ادبنا الشعبي
قصائد الرجال البسطاء الذين ماتوا في كل مكان وحفروا قبورهم بأظافر الكلمات بين العقيلة واديس ابابا . وعلقوا في عنق جرسياني جمجمة من الياقوت والدموع قصائد الشعر والاغاني وتوجعات المزارعين في وديان فزان و طرابلس وسرت ، واحلام الحب المرتجفة في مراعي البدو وتجمعات السكارى في آخر الليل ، والقصص وملاحم الحرب واقوال الشيوخ واغاني الحصاد والحرث وقص الصوف ومطاردة الراعيات وراء شجيرات البطوم .
انا سأكتب كل شيء . كل شيء . وسيطاردني الاطفال ويقولون هذا يوسف النجار،ويفحص المخبرون بطاقتي البريدية وبطاقة الحمار . ويصبون الماء فوق رأسي . ولكني لن اقف لأجففه قبل ان انقل عالم العجائز فوق الورق ، واربطة بخيط .
قصة الساحر الذي يضع ابره في شعر كل امرأة ويمسخها في الحال
قصة ابي زيد الهلالي وحكمة جازية السوداء القلب والعينين . الرحلة الى تونس وقصر الصفيرة عزيزة . احزان الاميرة في قصر الغول السحار . معارك النص انصيص المدهش وخرافات الغيلان والجن الاسود والاميرات والحب والقمر والسحرة اليهود .. كل شيء ، كل ما تعرفه العجائز . . ويطاردني الاطفال.ويهز الكبار رؤوسهم ويقولون: (خرف ! )، واخرف . مثل قطة حقيقية ممتلئة الجلد بالدفء وزيت السمك سأخرف وآكل النوى واعبيء جرابي بقلوب الميتين .
فأنا أعرف طريقي .
واعرف ان ليبيا تحتاج الى تلك الخرافات اكثر مما يعتقد الكبار والمتعهدون والصحفيون وتجار الخردة . فالجسر لا يبنى في الهواء .
الجسر لا يبنى على جثة فأر يبيع الخردة ، ولا بد من ربطه بين جبلين . لا بد ان يرتكز كل طرف فيه على ارض صلدة عجوز متينة البناء .
واذا كان احد المتعهدين يعتقد انه يستطيع ان ينجب خمسة فئران ويتركهم يعبرون ليبيا على جسر من البالونات، فما اسوأ ان يكون والد المرء متعهداً ،وما اسوأ ان يعبر المرء ليبيا .
الادب الشعبي تاريخ قابل للموت .الادب الشعبي مجرد كلام بلغة غير مكتوبة ، والموت لعبة مريعة في عالم اللغات غير المكتوبة . وقد شهد تاريخ الثقافة في جميع العصور مظهر هذا الموت المحزن . ورأى الرجال يذرعون القرى منقبين في التراب عن كلمة باقية ، حتى تنفصم ظهورهم من اليأس ويضيعون في التراب :
الاصمعي وحماد الراوية في الأدب العربي . دانتي في الادب الايطالي .ملير ، وجرشيه وزارا بوف في روسيا ، جريم وايريخ ترونز في المانيا ومئات الرجال الآخرين الذين نهضوا يدافعون عن تاريخ الموتى بقلم من القصب وصوفة مغموسة في الصمغ . ولولا ايريخ ترونز لما سمع أحد عن ملحمة و فاوست )
ولولا صغار الكتبة في اثينا لما سمع أحد عن ألياذة هوميروس ، وحرب طروادة وملاحم اوديسيوس . ولولا الاقلام القصب لبدا هذا العالم اكثر كآبة من زير القديد في نهاية شهر مارس .
فالموت لا يترك شيئاً وراءه .
الموت متشرد محترف يحسن الرماية واصابة الهدف ولا يستطيع ان يقهره سوی متشرد محترف آخر يصل قبله دائماً
ويعيء جرابه بكل ما يجده في الطريق ، وليس ثمة شك ان كسب السباق سيبدو اكثر يسراً اذا كان المرء يمالك وسيلة اسرع من الحمار . اعني اذا كان المرء يملك نقوداً . ومجموعة من الموظفين والآلات الكاتبة ومخازن الورق والسيارات والمكاتب التي تستطيع ان تجذب الرواة من اطراف الصحراء . واذا كان المرء وزيراً يهمه ان يكسب السباق ، ويعطي | ليبيا تاريخها مكتوباً مثل الآخرين .فالمطابع في كل مكان . والرواة كذلك ، والموظفون ، والحبر بالمجان . ومكتب الوزير يعمل أحياناً مثل مصباح علاء الدين . ولكني لست علاء الدين.
ولا املك سبعة جنيهات ، ولست في ليبيا الآن . انا ما زلت اذرع هذا العالم وحدي، واحشو جيوبي بالدخان والقش ، وادعو الناس لكي يقوموا بما لا اقوم انا به .
ووراثي .. يصفق الاطفال وتدب الاحلام على الرصيف مثل صغار الكلاب ، وتنبت الخرافات القديمة في قلبي ووجه جدتي العجوز ..
لا تنه عن خلق وانت فاعله لا .. لا تفعل ذلك قط
(سبق نشر هذا المقال في مجلة جيل ورسالة)
نرحب بتعليقاتكم