📁 آخر الأخبار

الشحات... قصة قصيرة لعلي غالب الترهوني




... لأكثر من عشر سنين وأنا أكتب لامرأة مجهولة، لا أعرف كيف تصورت لي هل رايتها في حلم قديم، او في مكان ما واختفت عني ! . وجدتني كمن يبحث عن إبرة في قاع البحر .. أسير في الطرقات والشوارع المكتظة بالناس وأقرأ الوجوه.. وهالني أن وجوه كثيرة تختلف عن بعضها، لكل إنسان معاناته وأشيائه وهمومه واحلامه تستطيع أن تقرأ ذلك في عيونهم وانجذابهم نحو الأشياء، ثمة أناس كثيرون ازدحم بهم مكان صغير في إحدى النواصي... اقتربت من ذات المكان رأيتها كانها هي ملامحها السمراء وعيناها المدورتان وانسياب شعرها الأكرت المتدلي عبر حبال رقيقة كالسياط حين يضرب على الصدر النافر يصرخ مئات الكافرين من هول العقاب اقتربت منها أردت أن أتحدث إليها ولكن ماذا عساي أقول؟

اللغة بكل معاجمها لم تسعفني في تلك اللحظة

المعاني والألفاظ تبخرت من الذاكرة.

المفردات الجميلة كلها ضاعت مني .

بقيت أنظر كالغريب خارج الباب مرّ علي أناس كثيرين صاروا ينظرون لي وأنا أمط شفتي مع كل التفاتة منها وعندما تضرب السياط وتهبط على المتاهة المغطاة بالحرير يختفي الهرمان وتتفتق الأرض عن لؤلؤتين .. أحس بهما براحتا يدي وأشعر وكأن ثمار الجنة تذوب بين أصابعي .

أحد المارة رآني في غمرة الاندماج فدس في جيبي بعض المال وقال:

 - ربي يصلح حالك !!

أخرجت الدراهم على عجل، عددتها لحقت بالرجل وقلت:

- خذ مالك أنا لست شحات

اندهشت فعلاً عندما ردّ علي قائلاً: 

-أعرف أنك لست شحاتاً ولكنك ستصبح كذلك إذا استهواك شيء لا تستطيع الحصول عليه .

ثم تركني وراح إلى حال سبيله .. أما أنا وقفت في مكاني والناس تمر علي في كل اتجاه وفي نهاية الشارع رأيت الرجل يدس الدراهم في يد فتاة صغيرة هي شحاته بالفعل .. عشر سنين وأنا أهيم وراء شبح امرة جميلة قاسية وقاتلة أهكذا تبنى الأشياء من (البواطل )

ما زال المارة يسيرون ذات اليمين وذات الشمال . . ما زالوا يمضون إلى متاهاتهم . . اختلاف الوجوه والقسمات والملابس أيضاً ينبئ عن شيء ما .. تلك المرأة التي جذبتني عندما دخلت الشارع ما زالت واقفة حتى الآن.

عصاها التي تمسك بها ليست كعصى موسى .. إنها من الخشب الخالص.. توخز بها المارة وهم يقفزون من أمامها فيما تثير وراءهم موجة من الضحك اقتربت منها، قبل أن أتكلم صرخت في وجهي .

- ابتعد إنها ليست هنا امض» طاردها على شاطئ البحر . . ! ولكن كيف عرفت هذه المرأة أنني أبحث عن فتاة بعينها فتاة العشرة أعوام

من الحب الخرافي دون أن أتحسسها . . كيف عرفت ذلك ..؟ عندما التفت إلى الدكان الصغير حيث تبتاع ذات السياط وتلحق الأذى بكل المذنبين . لحقت بها .. لم أراها تقدمت إلى الداخل. تفحصت الوجوه قرأتها جيداً مشدوهة إلى بعضها. ثمة فتيات محجبات ، يلبسن قفازات سوداء يعقدن أياديهن وينظرن إلى الناصية من الداخل. اقتربت من صاحب الدكان .. أردت أن أسأله ولكنه سبقني في الكلام

 -أرجوك سنقفل الآن البلدية شمعت الدكان.

لا أدري كيف حدث ذلك .. حضورها مدمر في كل الحالات حتى عندما

تغادر المكان تترك أشباحها يظلمون ويقطعون الأرزاق على العباد.

لا يمكن أن تكون هي ربما أخرى تشبهها لقد كتبت لها أشياء رائعة وأسمع صوتها من وراء الأفق يحنو إلي كأنها تمد لي يدها لتصافحني تحت الشمس وكأنها ترسم لي طريقي . .

استدرت وبدأت أشق طريقي بين الحشود اختفت الأصوات الصاخبة التي تعج بها مقاهي المدينة . . السيارات بدأت تسير ببطء شديد متراصة واحدة تلو الأخرى، الأطفال يمسكون بتلابيب أمهاتهم مرعوبين من أي شيء!

ثمة شرطي مرور يقف على الناصية الأخرى أراد أن يستعمل الصافرة لكنه لم يفلح، لا أحد يشبهها وهي كبيرة إلا علي فماذا عساي أفعل؟! لعلني ألتقي معها في عالم غير محسوس لا حوانيت تكتظ بالمشبوهين ولا عسس ولا رقيب .. حتى تلك الليلة أستودعكم الله .

 
صحيفة المنظار الليبية
صحيفة المنظار الليبية
تعليقات