📁 آخر الأخبار

في هشاشة طفل .. قصة قصيرة لجمال الزائدي



   أ
جمل ما في الحياة قدرتنا على التكيف مع تقلباتها، و الاستمرار في مجاراة أطوارها تحت كل الظروف .. قالها مغالبا غصة أنشبت أظافرها في حلقه حتى كادت تخنق أنفاسه المجهدة .. كانت المذيعة الجميلة قد سألته عن الطفولة والنشأة وأثرهما في صياغة منهجه الفكري ومدرسته الأدبية حين انقلبت سحنته وتهدج صوته ..
كنت مشدودا إلى الشاشة، اتابع كلماته وحركاته وسكناته كأني أراه لأول مرة، مع أني أجريت معه أكثر من حوار لحساب صحف محلية، وأخرى غير محلية .. لقد عرفته بما يكفي ومع ذلك انتظرت هذا اللقاء، منذ أعلنت عنه القناة، أي منذ أزيد من أسبوع تقريبا، فقط لأستمتع بالغوص أكثر في أعماق العقل، الذي طالما انبهرت بعبقريته، و شغلتني طرائفه و شطحاته .. لقد شكل اسمه ظاهرة ثقافية ملفتة طوال عقود، بسبب جذرية وأحيانا جرأة ما يطرحه من آراء صادمة، ورطته في صراعات ضارية بعضها، وصل إلى تبادل الشتم والسب عبر صفحات الجرائد، وأقلها انتهي في ساحات المحاكم أمام القضاء في بلاده ..كان ثمة مايشبه التناقض بين مواقفه المتصلبة، في قضايا عامة تمس حياة الناس مباشرة، وبين الأفق الإنساني الفسيح الذي يرسمه في أعماله الإبداعية .. في مسرحياته ورواياته ودراساته التاريخية الرصينة، مثقف يسبق أفكار وقيم ومفاهيم بيئته وعصره .. لكن في حياته الخاصة رجل مازال يعيش عصر ما قبل اكتشاف الزراعة ..كان يبدو لامباليا بأي شيء، صلبا قاسيا مثل صخرة صماء، وكان هذا الأمر جزء من سحره و اسطورته الفردية ..
    رأيه المعروف في المرأة على سبيل المثال ..نموذج لما تثيره مواقفه من استهجان وذهول في عقول قرائه ومريديه .. كان يعتبر المرأة كيانا أقل رتبة وإنسانية من الرجل، وتبعا لذلك صنفته جمعيات ونقابات الدفاع عن حقوق المرأة " العدو رقم واحد .. !! "
        كان الحوار يسير في سياقه المتوقع، مرسخا الصورة النمطية للشخصية الفولاذية، منزوعة العاطفة والشعور إلى أن ألقت المذيعة الجميلة بسؤالها البريء عن طفولة ضيفها .. هنا انهار جبل الجليد الراسخ على حين غرة ..تلاشت الصرامة والملامح الصخرية عن الوجه الثمانيني، الذي تهدلت تقاطيعه أكثر وتبدت هشاشته .. لمعت مقلتاه بدمعتين عتيقتين، ثم عاد الطفل إلى الحياة .. تحدث بكلمات متلعثمة عن قسوة الأب،وعن جلافته وشح نفسه .. عن الليالي الطويلة التي باتها خائفا مترقبا لعقاب على ذنب لا يعرفه .. تذكر أمه الصامتة الباكية، التي لم تجرؤ يوما على الدفاع عنه وعن إخوته .. لكن الألم الحقيقي تجلى طازجا، عندما استدعت ذاكرته زياراته رفقة عائلته إلى بيت عمه . . كان عمه أبا نموذجيا كريما ومحبا وأولاده محظوظون ..
: - لديهم غرفة كبيرة مليئة بالألعاب المدهشة، دراجات .. كرات ملونة من جميع الأحجام ..مجسمات صغيرة لحيوانات أليفة وغير أليفة ..سيارات ..طائرات ..كلها أشياء جميلة ..من شدة جمالها كنت أقول لاخوتي أنه يمكنني ان أكذب و أسرق وأرتكب أقبح الذنوب من أجل الحصول عليها ..
على الأريكة الفاخرة أمام المذيعة التلفزيونية، غادر المفكر العجوز صعب المراس، وجلس مكانه طفل بائس صادرت حياته لعبة اشتهاها ولم يحصل عليها .
   في نهاية اللقاء حاول استعادة حضوره الوقور، ارتسمت على محياه ابتسامة محايدة وغمغم قائلاً:
- لا أذكر آخر مرة كنت فيها على قيد الحياة ..على الأرجح أن ذلك كان منذ زمن بعيد ..بعيد جدا..أبعد من الكهولة والشباب والطفولة وساعة الميلاد..
(تمت)
صحيفة المنظار الليبية
صحيفة المنظار الليبية
تعليقات