pinterest-site-verification=9c2615a3f2f18801311435c2913e7baa المكان الطرابلسي في قصص عزة المقهور
📁 آخر الأخبار

المكان الطرابلسي في قصص عزة المقهور

المكان الطرابلسي
الكاتبة الليبية : عزة كامل المقهور

 المكان الطرابلسي في قصص عزة المقهور

 كتب : سالم أبو ظهير

    توظف القاصة الليبية عزة كامل المقهورعنصر المكان بشكل موفق في كثير من قصصها القصيرة، وتتخد منه محوراً رئيسياً، حتى يكاد يكون المكون الأساسى لمعظم نتاجها، فيحضر المكان في قصص عزة بكامل هيبته، وتتكي عليه لتتبع أبعاد الشخصيات في كل قصة، ودلالتها، ووظائفها فنجدها ترتبط بالمكان والحيز الجغرافي المحدد ارتباطا قويا، تعبر فيه بشكل مباشر جداً، وباسلوب سردي جميل، عن كينونة شخصياتها المتعددة والمتغيرة التي ترسمها في كل قصة.
    كما أن أغلب شخوص عزة المقهور في قصصها القصيرة، تنجح في ربطها ببراعة وبوتد لايشعر به القاري لتبقى الشخوص كما القاري الذي يتابع كل قصة ويعيش أحداثها في مكانها التابث الذي تحدده لها وهو مدينة طرابلس بازقتها وحواريها وشوارعها وميادنيها ومزارعها ومعمارها وكل شي فيها تقريبا، تتمسك بها عزة كامل المقهور (بنت طرابلس) وتحولها من حيز جغرافي محدد بأربعة جهات، الى كائن ياكل ويتنفس ويشرب وينام كما تريده هي وكما تحبه أن يكون في كل سرد قصصي مختلف الموضوع والزمان ومتحد المكان.
    وقد ساهم تمسك عزة بهذا المكان (طرابلس) ليتحول بشكل مختلف في كل مرة من مجرد مكان ترسمه بريشة زاهية ملونة، سواء بحنين جارف لماضي، او بتغني ووصف مسهب بدلال وفخر بحاضر، وحتى بتمنيات لاحد لها بمستقبل مشرق، يتحول هذا المكان ببراعة فائقة إلى دلالات تاريخية وسياسية وثقافية وإجتماعية من خلال رصد بعين طرابلسية كبيرة لأفعال وتشـابك علاقات، ويوميات تبدومختلفة في كل قصة لكنها متشابهة جداً لأنها تتخذ قيمتها الحقيقية من خلال علاقة عزة بالشخصية العامة الطرابلسية،وتشبتهابها،لتجبر القاري الذي ينهي قصة ما من قصص عزة ليسترق لحظات انتباه يعيش فيها شىئ من الأجواء التي عاشتها الكاتبة فنقلتها له ببساطة شديدة وبحرفية مذهلة حتى يكاد يشعر أنه أبن طرابلس وأن كان لايسكنها وبعيدة جغرافيا عنه.
    عزة التي لم ينصفني محرك بحث (القوقل) كثيراً، وأنا أحاول التعرف على سيرتها الذاتية ومن تكون فأكتفي بالإشارة إلى أنها أبنة الكاتب والقاص ووزير النفط السابق والمستشار القانوني والدبلوماسي الراحل المرحوم كامل حسن المقهور وأن عزة محامية أيضا مثل والدها وعضو في المجلس الوطني الليبي لحقوق الإنسان، وانها نشطت في مجال الدفاع عن حقوق المعتقلين السياسيين. وتنشط حالياً في المناقشات الجارية حول الديمقراطية ووضع دستور جديد وحماية حقوق المرأة. تخرجت من كلية الحقوق في جامعة بنغازي وتخصصت في حقل القانون الدولي في جامعة السوربون في باريس. وانها تكتب العديد من المقالات والقصص القصيرة.
    قصة فشلوم من بين هذه القصص القصيرة التي أعجبتني كثيراً، والتي نجحت عزة في أن تحولها لجدارية كبيرة مزدانة بالوان متعددة، وتؤرخ للحظة مهمة جداً في عمر تاريخ حي فشلوم وطرابلس وليبيا كلها الممتد منذ مئات السنين، لتضع خطاً تحت كلمة فشلوم تنصف سكان هذا الحي وتمنحهم حقهم في السبق الذي حققوه بخروجهم في انتفاضة فبراير 2011م ضد معمر القذافي مطالبين بتغيير النظام “طلعت فشلوم… خرج شباب فشلوم يهتفون للحرية بشجاعة عرفوا بها… أطلقوا عليهم الرصاص، وأغروهم بالمال، قاوموهما معا، يتظاهرون كل ليلة بصوت عال ويواجهون الطلقات بالصفير… يدخلون الأزقة المعتمة حين يشتد القنص ويحتمون بالبيوت المفتوحة تخفق قلوبهم بقوة تحت ملابسهم الشتوية”.
    ومايمهنا في هذه القصة الرائعة بحسب عنوان هذه المقالة هو تقصي المكان، وتوظيفه الرائع، مع التأكيد على عدم أهمال العناصر الأخرى، في محاولتنا هذه، ذلك أن المكان لا يدرس بمعزل عن السياق الذي يرد فيه بأي شكل من الاشكال، ولا عن علاقته بعناصر السرد كلها في قصص عزة، من هنا (ربما) يكتسي منجزها القصصي أهميته كون عزة تتعامل مع قصة فشلوم في كليتها من خلال عنصر المكان، الذي يسهم في تشكيل العناصر الأخرى، وفي إظهار دلالاته المتعددة التي ترد تباعاً بحسب ماتود القاصة، كما تسهم في تشكيل هذا المكان ووصفه بعمق وجمال مميز يشد القاري ولايمل منه فتبدأ قصة فشلوم بهذا الوصف الدقيق الرائع المتكامل للحي تراه بعين طائر يتخذ من أحد نخلات فشلوم موقعاً مرتفعاً تشرف منه على الأماكن التي تصفها بدقة متناهية “يقع حي (فشلوم) ما بين احياء أربعة، (الظهرة) وهي هضبة عالية يحدها شاطئ البحر ويفصلها عنه (جبانة سيدي بوكر) بقبته وعلمه الأخضر، و(زاوية الدهماني) بمبانيها البيضاء ذات الطراز الإيطالي، وحي (بن عاشور) بدوره الراقية، و (عرادة) بمياهها العذبة ونخيلها الشاهق ورطبها    (البرنسي).يشق رقعته الممتدة والمنخفضة شارع طويل ومستقيم، يبدو بلا نهاية”.
    هذه الخريطة الاسترشادية الجميلة تشوق القاري الذي لايعرف فشلوم لزيارتها، ومن يعرف فشلوم أو يمر بشوارعها وأزقتها بعد قرأءة القصة سيفتح عيونه ويشحذ انتباهه وتركيزه ليتذكر ويتعرف عن ماكتبته عزة عن فشلوم، وهذه متعة حقيقية للقاري ولكاتبة القصة التي كسبت قاري مداوم على قصصها وشدته أليها وهذا يكفيهما الاتنين على أقل تقدير.
    رغم أن كاتبة القصة محامية إلا انها تستخدم بمهارة تقنية المسح التتابعي، فلا تتوقف عند وصف المكان بشكل عام، لكنها تسترسل في هدوء تام وبحرفنة مميزة تستند على لغتها العربية السليمة فتتكي عليها، رغم أنها تقدم للقاري وصفاً دقيقاً وشاملاً للأماكن بلهجة طرابلسية (زمنيه) على راي سكان فشلوم زمان فتقول. “تحف شارعه الرئيسي دكاكين (الزلابية والعسلة)، و(السكليستي) بزيوته المسكوبة على الرصيف والدراجات المقلوبة أمامه والمعلقة على حيطانه، و(القوميستي) بعجلات السيارات المتكئة على حائط دكانه تعيق حركة المارة، ودكاكين صيانة التلفاز والغسالات وهي تقف على الأرصفة منزوعة الأطراف، وسلخانات الدجاج الحي والجزارين، والمخابز، ودكاكين النجارة والحلاقين، و(القهاوي). يبدأ الحي وينتهي بجزيرة دوران، يقع في بداياته جامع (الفنيش) الصغير، وقرب نهايته جامع (فشلوم) أو الجامع الكبير الذي يتربع على أرض مثلثة الشكل”.
    كما تستخدم عزة الوصف الحسي المباشر بتقنية ومهارة، تجعل من المكان الذي تصفه أداة طيعة يدركها ذهن المتلقي بسهولة ويتفاعل معها، فتصف القاصة ماتريد وهي تعتمد على حواسها البصرية كشكل أساسي دون أغفال حاستي السمع والشم أيضا “تخرج فاتحة ذراعيها في استقبالنا كما تتفتح زهور (نوار العشية) في حديقتها الأمامية، باب بيتها مفتوح، تمتلئ حجرة الجلوس بجاراتها، مرصعة بالمنادير، وتتوسط جدارها صورة فوتغرافية لوحيدتها في فستان العيد أمام الجامع الكبي”. وفي مقطع جميل أخر “… بعض أبوابها مفتوحة، وبعضها الآخر يتستر بستار قماشي، أبواب مساكنها خشبية مثبت عليها يد حديدية للطرق، نوافذها منخفضة تطل على الأزقة، يغطى منتصفها خشب (عين الزرزور)… بعض أزقتها مرصوفة وبعضها ترابية”.
    ومع تشبت عزة بالمكان كعنصر هام في قصتها فشلوم، ألا أنها تنقلك ببراعة لتتكون لديك فكرة ربما كافية جداً عن المجتمع الفشلومي (أن صحت التسمية) فتعطي الشكل العام للعلاقات الاجتماعية في هذا الحي المديني الصغير من العلاقة بين الولد والبنت “في فشلوم تكون القرابة (لولد الجيران) و(بنت الجيران)”… إلى بعض العاب الأطفال في الحي “يلعب أولادها (بكورة الشخشير)”، وبعض العادات اليومية لنساء فشلوم “أما نساؤها فتطرزن الحكايات كل (عشية)، يطردن شبح المرض عن إحداهن، أو يعايدونها ويشاركونها الفرح، تداومن أشهرا عند الثكالى، تقتسمن كسرة الخبز وطاسة الشاهي، وتتذوقن طعام بعضهن البعض في شهر رمضان”، وبعض عادات شبابها وشيوخها أيضا “يتحلق شبابها في دوائر عند زوايا الأزقة، ويجلس كهولها أمام الدكاكين أو على ركابة جوامعها”.
ورغم بقاء المكان تابثا منذ بداية القصة إلى نهايتها، تحرك القاصة الزمان بشكل مفاجئ جداً وببراعة ربما محاكاة للحدث الذي وقع وتتمحور حولة القصة وهو انتفاضة فبراير فيبقى المكان تابثا، فيما يتكفل الزمان برصد التغير المفاجى الذي طرا بجملة واحدة في وسط القصة تقريبا تقول “طلعت فشلوم” تبدأ بعدها بسلاسة في التحدث عن ابطال قصتها حتى تختمها مؤكدة أن التغيير الذي حدث شي كبير “هبت الرياح على فشلوم… لكنها رياح مختلفة هذه المرة، مغلفة برائحة البارود والدم… ضربت كالاعاصير سكانها وشارعها الرئيسي الطويل، إلا أن أزقتها المتربة منها والمعبدة مازالت تنبض كل ليلة… كل ليلة….”.
    عزة كامل المقهور لم تغفل أن تطعم قصتها بكلمات طرابلسية خالصة وأسماء طرابلسية ولهجة طرابلسية جعلت من قصة فشلوم لوحة طرابلسية متكاملة بطلها والحاضر فيها حي فشلوم كله بـ “عين الزرزور”… عمتي “كميلة”… “مرت الزقلوط” الذي يمتهن طهور الصغار مجانا… “نوار العشية”… “مرت عمي الهادي”…”ولد فشلوم”.
شكرأ عزة على هذه الفسحة الجمالية التي منحتني متعة حقيقية وأنا أقرأ ومتعة أكثر وأنا أكتب أنطباعاتي المتواضعة عما قرأت فشكراً مرة أخرى
صحيفة المنظار الليبية
صحيفة المنظار الليبية
تعليقات