
الكاتبة الصحفية :سوزان بن نصر
بين الذاكرة والنفط: حكايات السيادة المفقودة

على الرغم من قناعتي القديمة، بأن ملف تعيين القيادات في ليبيا ظلَّ دائمًا مشوبًا بالكثير من التساؤلات والانتقادات، إذ غالبًا ما تُسند المناصب الكبرى إلى شخصيات تفتقر إلى الخلفية التخصصية في المجال الذي تقوده، إلا أن لقاءاتي مع عبد الله البدري وشكري غانم غيّرت هذه النظرة تمامًا.
كنت في فيينا، المدينة التي تُسابق ساعتها الباردة عقارب الذاكرة. هناك، وسط مبنى “أوبك”، شعرتُ بثقل اللحظة ، حيث كل لوحة فنية داخل رواق المبنى، تمثل الدول الأعضاء، إلا ليبيا غابت عن هذا المشهد.
استقبلني البدري بحفاوة لا تزال تدفئ مخيلتي، وودّعني بتمنٍّ عميق أن أجلس على كرسيه ذات يوم.
في ذلك اللقاء، قال لي: “القضية ليست فقط كميات إنتاج النفط، بل هي لعبة السياسة والاقتصاد معًا. من يفتقر إلى أدوات المساومة، يخسر.”
ثم حدثني عن رفض طلب العراق زيادة حصتها، وأوضح كيف أن التفاهمات الكبرى لا تُعقد إلا على طاولة المصالح، حيث من يملك القوة يفرض شروطه.
أما المرحوم شكري غانم، فقد كان وجهًا آخر من كوادر النفط العالمية. التقيته عندما كان رئيسًا للمؤسسة الوطنية للنفط، ولا تزال تعابير وجهه، المختلطة ما بين مشاعر متضاربة، عالقة في ذاكرتي وهو يحدثني عن عقود الجيل الرابع.
كان يرى فيها نقلة نوعية في تاريخ صناعة النفط الليبي، نقلة محفوفة بالمخاطر، كما أخبرني.
تلك العقود كانت تمنح ليبيا حقوقًا أكبر في استثمار مواردها، وبدا لي متخوّفًا من ردود فعل الشركات الكبرى التي اعتادت أن تملي شروطها على الدول المنتجة.
وفي المقابل، تذكرت لقاءً أجريته عام 2002م، مع فرحات بن قدارة، عندما كان نائب محافظ مصرف ليبيا المركزي. كان ذلك اللقاء لصالح صحيفة الجماهيرية، وأتذكر شعوري بالفخر والسعادة حين قيل لي إنه أول لقاء صحفي يُجرى مع المصرف المركزي في تاريخ الصحافة الليبية.
لم يكن حينها بن قدارة في دائرة النفط، كان في عالم المال، ومع ذلك، بعد 2011م، وجدناه ينتقل من إدارة المال إلى إدارة قطاع النفط، في خطوة أثارت تساؤلات كثيرة!!!.
كيف يمكن لرجل بلا خلفية نفطية أن يدير قطاعًا بهذه الحساسية !!؟
هذا السؤال أعادني إلى مقارنة لا مفر منها بين من قادوا القطاع برؤية وخبرة، وبين من جاؤوا إليه نتيجة إعتبارات أخرى.
البدري وغانم، رغم اختلاف الظروف، جسّدا ما يعنيه وجود الرجل المناسب في المكان المناسب بالنسبة لي: رؤية واضحة، إدراك عميق لحجم المسؤولية، ومعرفة بأن النفط في ليبيا ليس مجرد سلعة اقتصادية، بل هو مفتاح للسيادة وأداة ضغط سياسي بامتياز.
وما أسرده اليوم هو بمناسبة استقالة بن قداره، كما أنه ليس مجرد صفحات صحفية، بل هو انعكاسات حية على فصول متفرقة من تاريخ ليبيا، تكشف عن التباين بين من قادوا القطاع برؤية استراتيجية وخبرة وبين من تولوا القيادة لأسباب أخرى .
هذه الاستقالة، وما أحيط بها من جدل، ليست إلا دليلاً على الفوضى، حيث تُمنح المناصب السيادية بناءً على الولاءت الشخصية والمحاصصة والإملاءات الخارجية .
ورغم التبرير لها، يبقى السؤال:هل تكفي الاستقالة لإغلاق ملفات تُثقلها الأسئلة؟
كما أن الحديث عنها يضعنا أمام حقيقة أن استقالة المسؤول دون محاسبة تفتح الباب على مصراعيه أمام جميع المسؤولين للعبث ثم الهرب .
إذا رحل بن قدارة دون فتح ملفات الأداء والتحقيق في قراراته، فإن المحاسبة للجميع ستصبح حلمًا بعيداً .
النفط في ليبيا ليس ملكًا شخصيًا يُباع ويُشترى، والمساءلة ليست خيارًا، بل ضرورة لاسترداد كرامة وطن استُبيحت مصالحه في كواليس السياسة الدولية .
نرحب بتعليقاتكم