📁 آخر الأخبار

صور وموسيقى في "عشر ومضات" لمفتاح العلواني

 بأسلوب بسيط غني بالمعاني، يقدم لنا الشاعر مفتاح العلواني في قصيدته "عشر ومضات". كل ومضة من الومضات العشر تحتوي على قدر كبير من المعاني ضمن مفردات قليلة، وكل ومضة هي تجربة شعورية فريدة تستحق القراءة،في في قصيده "عشر ومضات" صوراً شعرية،وطبقات دلالية وموسيقى اخادة بإيقاع خفي.

الشاعر الليبي :مفتاح العلواني

 قراءة : سالم أبوظهير

مفتاح العلواني شاعر مختلف، فشعره (في عمومه)،لا يقف عند حسن اختيار المفردات والصور فحسب، لكنه  يحول الكلمات إلى صور وموسيقى، تم يبعث فيها من حسه الشاعري المرهف أحاسيساً صادقة وغنية ومتباينة، ليضمن أن تصل رسالته الشعرية إلى القاري بالشكل الذي يرنو إليه، وتحقق الأثر الذي ينشده.  هنا نعيد نشر قصيدته "عشر ومضات"، ثم نستعرض لمحة موجزة عن نتاجه الشعري ، وبعدها قراءة متواضعة لومضات الشاعر المدهشة والمفعمة بالحب، والحزن، والأمل.

القصيدة 

عشر ومضات
1
كلما رَتَّبْتُ الأشياءَ حولي
تبعثرْتُ في داخلي.

2
في حقيبة المسافر
ثمةَ حزنٌ مطويٌّ بعناية.

3
الجدرانُ
تعرفُ أنينَ المسامير.

4
السماءُ التي لا تُمطر
تنسى كيف تواسي الغيوم.

5
الذين يكتبون كثيرًا
ينسونَ الكلام.

6
الأبوابُ القديمةُ
تفتحُ على صريرِ الذكريات.

7
الأرصفةُ التي مررنا عليها
لا تزالُ تحتفظُ ببقايا خطانا.

8
عندما أهربُ من ضجيجِ العالم
أجدُ نفسي جالسًا إلى جواري.

9
العيونُ المتعبة
تعرفُ كيف تُغلقُ دونَ وداع.

10
في قاعِ القلب
ثمةَ أشياءُ لا يجيدُ البحرُ غَسْلَها.

الشاعر

الشاعر الليبي مفتاح سعد العلواني من مواليد مينة البيضاء في عام 1984م ، تحصل على ليسانس في القانون من جامعة عمر المختار عام 2005م ، وواصل مسيرته المهنية الأكاديمية بالعمل كمعيد ومساعد باحث في كلية القانون بنفس الجامعة، حتى عام 2009م .ثم واصل دراسته بالمعهد العالي للقضاء في طرابلس، وتحصل على درجة الماجستير ليتم تعيينه لاحقًا وكيلًا للنيابة العامة، وهو يشغل حاليًا منصب وكيل نيابة بمكتب المحامي العام في مدينة البيضاء.

القراءة

    ومضات العلواني العشرة ، التقاط مبهر لحالات ولحظات انسانية خاطفة ، قبض الشاعر قبض على جوهر تلك اللحظات العابرة وحولها إلى لغة شعرية وتجربة شعورية متكاملة، وقدمها للقاري في قوالب مرقمة لكنها مفعمة بالأحاسيس ، وبالصور الشعرية ، والموسيقى الداخلية فتحولت الومضات الى نصوص قصيرة معبرة تفيض بالحكمة والجمال والرؤية العميقة.
    كل ومضة خاطفة من الومضات العشر، اعاد الشاعر صياغتها الى لحظات انسانية ، وحكايات مدهشة تعكس براعته في نسج الكلمات وتحويل حروف الكلمات الى موسيقى خفية ، تربط بإحكام الصور الشعرية للومضات بعضها ببعض ، وتقدم صكا ممهورا بتوقيع الشاعر يستدل به على براعته في سبر اغوار الصور الشعرية التي بنى عوالمها بلطف وجمال ، وبعفوية دونما ضجيج او مبالغة مصطنعة ، وتبين قدرته كشاعر بحس مرهف على كشف الجمال المخبوء خلف كل ومضة ، وتحويل الشعر برمته الى كأئن يشاركه و والقاري اللحظات الانساية الخاصة.

"كلما رَتَّبْتُ الأشياءَ حولي، تبعثرْتُ في داخليهكذا بدأ الشاعر ومضاته، بمفارقة بصرية ومعنوية بتركيبة لغوية غاصت في قلب النص، وحفلت بالتضاد الجمالي، فخلق بذلك صوة شعرية أخادة جمع فيها بإتقان بين البساطة والعمق، وتداخل المفارقات والتناقضات، فنجح في ضبط فوضاه الخارجية  والانهيار الداخلي بطريقة تبعث على الدهشة، ولابد ان تثيرالتفكير في نفس القارئ وكأن الشاعر يترك للمتلقي حرية المشاركة في إكمال هذه الصورة الشعرية.

صورة شعرية أخرى أوردها الشاعر في في ومضاته أمتازت ببراعة في التكتيف والإختزال حين يقول"في حقيبة المسافر، ثمةَ حزنٌ مطويٌّ بعناية" فتحولت الحقيبة من مجرد حقيبة يد عادية إلى مستودع  فيه الحزن "مطوي بعناية"وأضفي بذلك على الحزن ملمسًا حسيًا، كما لو كان هذا الحزن قطعة من القماش يتم طيها بدقة وأهتمام ، فتحولت هذه الومضة الى صورة تكاد تنبض بالحياة. من جانب أخر تتداخل الحواس في القصيدة بشكل مرهف، تأمل معي قول الشاعر"الأبوابُ القديمةُ تفتحُ على صريرِ الذكريات"وكيف إمتزج صوت (صرير الأبواب) مع الزمن (الذكريات)، فتشكلت صورة متعددة الأبعاد، فيها مشهدًا بصريًا،وتجربة حسية متكاملة.

وفي ومضة أخرى وظف الشاعر ذاكرة المكان حين يقول "الأرصفةُ التي مررنا عليها، لا تزالُ تحتفظُ ببقايا خطانا" فتحول الرصيف إلى شاهد على الزمن المنصرم، ما يمنح الصورة بُعدًا حزينًا عابقًا بالنوستالجيا.

الشاعرالعلواني في هذه القصيدة  لم يتقيد بوزن تقليدي ، لكنه اعتمد على بناء موسيقى ذات إيقاع داخلي خفي ومميز، نسج عبره موسيقاه الخاصة المستندة على تكرار الأصوات والسجع الخفي، ويمكن ان نلمس هذا مثلا في تكرار صوت السين، بانسيابية موسيقية حين يقول "السماءُ التي لا تُمطر، تنسى كيف تواسي الغيوم" وبتكرارمثل هذا الإيقاع الداخلي نجح الشاعر في تحويل قصيدته "عشر ومضات" الى مايشبه مقطوعة ترتيلية، تتردد في ذهن القاري حتى بعد الانتهاء  من قراءتها.

التكرار سمة بارزة من سمات قصيدة "عشر ومضات" هذا التكرار ليم يرد فقط على مستوى الكلمات، بل من خلال استحضار مفردات الحياة اليومية مثل "الجدران، الأرصفة، الأبواب، العيون، البحر". هذا التكرار منح  القصيدة نصا ذا بعدًا دائريًا، وكأن الصور الشعرية تتوالد من بعضها البعض، وهذا عزز بوضوح شعور الوحدة العضوية داخل النص. كما قدم الشاعر بعض ومضاته بصور شعرية ذات طابع فلسفي عميق حين يقول مثلا: "عندما أهربُ من ضجيجِ العالم، أجدُ نفسي جالسًا إلى جواريفتظهر في هذه الومضة إنعكاس ازدواجية الإنسان بين هروبه من الواقع وعودته إلى الذات، وكأن الذات المنقسمة تراقب نفسها في لحظة تأملية صامتة. كما يستحضر  الشاعر ببراعة في هذه الومضة "العيونُ المتعبة تعرفُ كيف تُغلقُ دونَ وداعالصمت كعنصر بلاغي، حيث لا تحتاج النهاية إلى كلمات لتعلن عن حضورها، بل يكفي إيماء العين المتعبة، التي تختزل حكاية كاملة في إغماضة عابرة.

وختاماً

 يمكن التقرير أن العلواني لجأ في ومضاته إلى التكثيف اللغوي، فنجد كل ومضة تتسم بانضباط شديد للكلمات، فلا حرف زائد ولا صورة مفتعلة.بل نصاً متكاملاً  يترك أثرًا في النفس بعد القراءة، وأحسب أن هذا الأثر تحقق في قصيدة  "عشر ومضات" بامتياز. فتحولت من مجرد كلمات منسقة ومرقمة ، إلى قصيدة رائعة تلتقط لحظاتنا الأكثر هشاشة، أعاد العلواني تقديمها في صور شعرية نابضة بالحياة، تحاكي ذاكرة إنسانية جماعية. وتتحول ال "عشر ومضات" الى شهادة على قدرة الشعر على التقاط جوهر الإنسان، وتحويل اللحظات العابرة إلى لغةٍ تعبر الزمن، وتبقى في القلب والعقل كذكرى لا تنطفئ.

الكلمات المفتاحية: الصور الشعرية، الموسيقى الداخلية، قصيدة عشر ومضات، مفتاح العلواني، تحليل نقدي، الإيقاع الشعري، البلاغة، الشعر الليبي، النصوص الحديثة، التجربة الشعورية.

صحيفة المنظار الليبية
صحيفة المنظار الليبية
تعليقات