في زمن تتراكم فيه الأصوات وتتشابه فيه القصائد، تبرز قصيدة "رعد" لسالم العوكلي مميزة وفريدة، تعبر عن ذاكرة مثقوبة لبلد يتفكك، وصوت قلب ينبض وسط أنقاض وطن يتأرجح بين نار الحرب وظلال الذاكرة، قصيدة حولها الشاعر بإبداع لشهادة إنسانية شعرية نادرة توثق لمآسي الحروب الأهلية وتمزق النسيج الاجتماعي.
"رعد" ليست قصيدة عابرة تشبه كل القصائد، لكنها تجربة وجودية، وملحمة تلخص مأساة وطن، بكلمات حولها الشاعر لشظايا من رعد ومطر ووطن وحرب ونار وخوف والم وطحين وراية وطفولة وذكريات وكتاب. وغرسها فينا، لعلنا نحيا ….!!!.
![]() |
الشاعر الليبي :سالم العوكلي |
📅 الجمعة 18 ابريل 2025م
✍️ قراءة وتحليل : سالم أبوظهير
هنا قراءة لقصيدة "رعد"، ومحاولة لتلمس مضامينها الإنسانية، وتحلّيل لغتها الشاعرية، وتفكيك رموزها المعبرة، وأكتشاف كيف يرسم سالم العوكلي بشعره لوحة أدبية متقنة ومرآة لوطن جريح، لوحة تتداخل فيها الرؤية الفردية بالمأساة الوطنية، مع رؤية مستقبلية متفائلة رغم كل المآسي والآلام، والمعاناة من الحرب وآثارها المدمرة، وكيف يؤسس سالم لرؤية بديلة للوطن تقوم على الحب والحرية والأمان. رؤية تتجاوزالواقع المؤلم لتستشرف مستقبلاً أفضل، لوطناً "لم نقابله بعد"، لكنه يبقى حلماً يستحق النضال من أجله.
الشاعر
سالم العوكلي، شاعر وصحفي وناقد وكاتب ليبي بارز، يُعد من أعمدة قصيدة النثر في ليبيا والعالم العربي، تميّز بأسلوبه الفريد في قصيدة النتر، وصدر له: مقعد لشاعرين وسرير، وعلى حافة المأتم (2000)، ولالي (2009)، وما الذي يضحك فينا؟(2009)، والوهابة، وسارقة الموسيقى (2008)، واللحية (2012).
وُلد الشاعر سالم العوكلي في الثاني من نوفمبر عام 1960م في منطقة "لاليّ"، جنوب قرية القيقب في الجبل الأخضر بشرق ليبيا. أكمل دراسته الثانوية في درنة ، ثم نال درجة البكالوريوس في الهندسة الزراعية من جامعة عمر المختار في البيضاء.
بدأ مشواره الإبداعي أواخر سبعينيات القرن الماضي، وتطور تدريجيا ليصبح من أبرز الأصوات المتميزة في المشهد الثقافي الليبي. كما عُرف العوكلي بكتاباته المميزة في الصحافة الثقافية العربية، حيث نُشرت أعماله في العديد من الصحف والمجلات المحلية والدولية فنشر في مجلة "الناقد" وفي صحيفة "العرب" اللندنية. كما ترك بصمته الواضحة من خلال عموده الأسبوعي "ضفاف" الذي كان يُنشر بانتظام في صحيفة "الجماهيرية.
القصيدة
نُحدِّق في الشتاء الطويل
فلا نرى في الأفق المعتم سوى حزمة سنابل
كأن المطر في راحتي رغيف
وكأن صمت الرحى يصغي لغيم يتشقق
تلفني أمي بحديقة من القرنفل، وتهمس:
لا تخف .. إنه الرعد يا ولدي
وكلَّ صبح تُشيد من الحطب المبلول نارنا الصغيرة
رعدٌ، تقول أمي
فيملأ أبي الوهادَ بقمح من راحتيه الضارعتين
كان أبي يُكدِّس الطحين في مخابئ البيت
يرى السؤال المطل في عيوننا
فيقول :
لعلها الحرب تندلع.
ونضحك لأن الأفق المكتظ بالرعد
لا يشي بدم جديد
ولأن ..
لا رايات في البحر تخدش صمته السماوي .
كم كانت حربك نبيلةً يا أبي
وكم كان نبياً حدسُك البدوي
وأنت تبني من أكياس الدقيق متراسنا.
دم يابس على أطراف أصابعك
وغزاةٌ من خلف البحر مروا بقمح الكهوف كالجراد
فأي متراس يحميني من وابل الذكريات
وقومي هم الغزاة يا أبي.
قلت لي، وأنت تُحدق في الكتاب بين يدي:
تعلم لغة العدو لتنجو ..
ولم تعلمني كيف أنجو حين يكون العدو أخي
على مرمى قذيفة من ساعة الحائط
أجمع شظايا أبنائي من أفق يتشقق
وكلما دوّى قصف في الجبال
أقول لهم إنه الرعد
ولكن كيف لوهمي أن يصمد
وهم يعرفون هوية الانفجار من نبرته
كم هدهدني الرعد الحنون
وكم بلل المطر أهداب أبي
كأن العمرَ دهرٌ
وكأن الدمَ النازفَ في وطني شفقٌ جريح
عذراً أولادي ..
لم أجمع الدقيق من رفوف الغيم
ولم أعلّمكم كيف تنحنون لتمر الرصاصة فوق رؤوسكم
لأن الحرب كانت أسطورة أبي
ولأنني كنت أضحك حين يقول : لعل حرباً تندلع
أحدق في بحر يتلو أمواجه على مسمع الحجر
لا أشرعةَ في الأفق أو شهقة مدفع
لكن لا أحد أخبرني
أن الراية التي وقفتُ لها يوماً خاشعاً ستقصفني
وأن حضن أمي ما عاد هنا ليهمس لي
نم قريراً .. محض رعد يا ولدي.
المقتول أخي والقاتل
وهذا الرأس الملفوف بالقصدير
كأني شربت معه القهوة ذات صباح
والأطراف المبتورة تمشي كلَّ ليلٍ،
في كوابيسي، إلى قبورها الصغيرة
عذراً أولادي
علّمتكم كيف تنصتون إلى الموسيقى
كيف تغازلون الجميلات بشِعر كأنه الندى
كيف توقدون النار في الحطب المبلول
وكيف تمشون على رؤوس أمشاطكم كي لا تعكروا قيلولة الجار
ولم أعلّمكم لغة الزناد
ولا كيف تبنون متراساً من الطحين
حدثتكم عن مزمار الوادي
عن الحب الذي ينمو على ضفة البئر
وعن طبول الرعد في الليل الطويل
لكني لم أخبركم بوسواس أبي القديم
ذاك الرجل النحيل الذي عبر وحيداً حروب هذه الأرض
كلما قال حربٌ ضحكنا
وكلما دخل بكيس طحين قلنا
يا لذاكرة أبي المكتظة بالكوابيس
ذاكرتي ملساء كأنها البياض
فمن أين جاءت كل هذه الرؤوس المقطوعة
إلى ذاكرة نقالاتكم
وكيف تمزقت ألوان العلم على أعناقكم
ولم يبقَ منها سوى الأحمر
عذراً أبنائي
لم آخذ أسطورة أبي على محمل الجد
ولم أقل لكم حين هز القصفُ أركانَ البيت
إنه الرعد ..
لأن المطر المعدني أغشى عيون حدسي.
ولأن أبي الذي رأى الغزاة يهبطون من السفن
لم يخبرني أن الغزاة قد يهبطون من دمي…
هل قلت وطني..؟
هل حدثتكم عن الوطن ..؟
أوه .. كم حدثتكم عن الوطن القادم أيام كنا نلتقي!
وكم علّمتكم رسمَه في كراسة الواجب
انسوا كل هرطقات المدارس عن الوطن،
وانصتوا من جديد لدبيب الأرض في دمكم
حين يقول لكم الجار صباح الخير
حين تمشون في الأرض مرحاً
حين تسكرون بعطر الشيح في المساء الخريفي
حين تخيّمون مع الرفاق في سكينة الغابة
ولا يتبعكم الخوف كالظل
حين تضحكون من أب يكدس الطحين في زوايا البيت
حين تنتظرون الحبيبة في الشرفة المطلة على الدرب الحجري
ذاك هو الوطن الذي لم نقابله بعد
فامسحوا الخارطة من كراساتكم القديمة
وارسموا الوطن بيتاً
يحده من الشمال حب
من الجنوب وتر
من الشرق بخور ومن الغرب شفق ..
ارسموه ضحكةً في أطلس الروح
واغفروا لي كلَّ وهم دسستُه في عيونكم
واغفروا لي أني لم أصدق في غمرة الوهم حدسَ أبي
ولم آخذ كوابيسه على محمل الجد.
القراءة
الرعد عنوان ورمز متعدد الدلالات
تأتي هذه القصيدة في إطار قصيدة النثر، حيث تحررفيها الشاعر من قيود الوزن والقافية التقليدية، لصالح لغة رمزية مكثفة وموحية، تمكنه من التعبيرعن تجربته الذاتية والجماعية ، ويسمح لمشاعره وأفكاره التدفق بحرية أكبر.وبذلك نجح العوكلي في تحويل قصيدته الى لوحة فنية مدهشة، زاخرة بالصور الشعرية المكثفة وبالرموزالموحية التي تشكل نسيجاً متكاملاً من الدلالات لتي تجمع بين المتناقضات كما سنلمس لاحقاً من خلال هذه القراءة التحليلية.
"رعد" هو عنوان القصيدة ، ومفتاحها التأويلي الأولي، الذي يستوقفنا منذ عتبتها الأولى بمفردة مختزلة، و ذا دلالة إيحائية كثيفة تحمل ثنائيات متعددة ومتناقضة في آن واحد. فتكشف ثنائية الدلالة بين الخصب والخوف، وبين الطفولة والحرب، ليتحول "الرعد" من ظاهرة طبيعية مرتبطة بالمطر والخصب والحياة في أمان إلى رمز للدماروالعنف والخوف والقلق والترقب. هذه الثنائيات الضدية شكلت محوراً أساسياً تدور حوله القصيدة كلها ، حيث يتحول "الرعد" في زمن الطفولة كرمز للطبيعة البريئة ، إلى رمز للحرب والدمار في زمن النضج.
تكررت عبارة "انه الرعد" مرات عديدة، ليفرض "الرعد" نفسه كرمزاً محورياً في القصيدة كلها، وعنوانها الذي وظفه الشاعر بإقتدار، وليحمل دلالات متعددة ومتناقضة، ويحوله من دلالة كونه ظاهرة طبيعية إلى غطاء للحرب ليعكس بذلك تحول الواقع نفسه من الأمان والسلام إلى الحرب والدمار ، ومن براءة الطفولة وسؤالها عن "الرعد" والإصرار حتى نهاية القصيدة بطمأنة ألأطفال بكذبة بيضاء فقدت قدرتها على توفير الطمأنينة في ظل واقع الحرب القاسي:" نم قريراً .. محض رعد يا ولدي".
وما يلفت النظر في استخدام الشاعر لرمز "الرعد" هو المفارقة المؤلمة بين"الرعد" كظاهرة طبيعية مؤقتة تنتهي بانتهاء العاصفة، والحرب كظاهرة إنسانية مدمرة تستمر آثارها لأجيال. هذه المفارقة تتضح في قوله : "ولكن كيف لوهمي أن يصمد، وهم يعرفون هوية الانفجار من نبرته"، في إشارة حاسمة إلى عجز كذبة الشاعر البيضاء " وكلما دوّى قصف في الجبال أقول لهم إنه الرعد"عن الصمود أمام واقع الحرب القاسية. وقبلها يظهر في مطلع القصيدة مشهداً مؤثراً ينطوي على إحساس بالحنان والأمان والطمأنة " تلفني أمي بحديقة من القرنفل،وتهمس:لا تخف .. إنه الرعد يا ولدي"، لكن هذا الشعور سرعان ما يتبدد وتتلاشى براءة موسيقى "الرعد" حين يتحول من ظاهرة طبيعية، وصوت مألوف ورمز للحنان والأمل وبشارة تحمل المطر والخير وكائن حنون أو حاضن، يحمل في باطنه الرحمة والحنو " كم هدهدني الرعد الحنون" إلى رمز للقلق والخوف من المجهول، وأحساس بوجود خطر خفي، رغم همس الأم وحنوها ،ثم نكتشف تدريجياً أن "الرعد، هذه المرة، لم يكن مطرًا.بل صوت الحقيقة، حين تصل متأخرة".
يتحول "الرعد" في القصيدة الى نهاية غير متوقعة، "إنه الرعد .. لأن المطر المعدني أغشى عيون حدسي." ثم يصبح "الرعد" درساً قاسياً، ونهاية مأساوية مؤلمة جداً "يجمعون شظايا إخوتهم، ويعرفون من نبرة الانفجار أنه ليس رعدًا.". ورغم تكرار "الرعد" في القصيدة بشكل ملفت لكنه كان تكراراً خدم القصيدة حين تكرر بصيغ مختلفة، وجاء بتنويعات متباينة "لا تخف .. إنه الرعد يا ولدي" "إنه الرعد" ، "رعدٌ، تقول أمي"، "إنه الرعد"، "نم قريراً .. محض رعد يا ولدي". هذه التنويعات منحت التكرار حيوية وتجدداً، وعكست تحولات المعنى عبر سياقات القصيدة المختلفة. "رعد" عنوان عكس بشكل دقيق ثيمة القصيدة من حلم بوطن وسلام إلى كابوس يعصف بالحياة.
لغة بسيطة وثنائيات متباينة
لا يكتب الشاعر سالم العوكلي في هذه القصيدة بلغة نُخبوية، ولا يستعرض عضلاته البلاغية، لكنه يُدخِل مفرداته اليومية في فرن التجربة حتى تتحوّل إلى رماد مشع. قصيدة تجمع في ظاهرها بين البساطة وبين الكثافة الرمزية المؤلمة، فتأتي على شكل النصّ السردي الشعري الطويل، الذي يمتد بمشاهد متداخلة ومتشابكة من الطفولة والذاكرة، الى الحروب والخيبات، التي تكشف بشكل دامي عن معانى الانتماء، والخوف، والخديعة، وحجم الألم حين يأتي من الداخل لا من العدو.
يبدأ الشاعر قصيدته بالأم والقرنفل والهمس " تلفني أمي بحديقة من القرنفل، وتهمس"، وينهيها بمشاهد مؤثرة فيها رؤوس مقطوعة تتناقلها ذاكرة النقالات " فمن أين جاءت كل هذه الرؤوس المقطوعة إلى ذاكرة نقالاتكم" ورغم ذلك حافظ الشاعربإقتدارعلى أسلوب القصيدة هادئاً ، فخاطب القاري بلغة حميمية موجعة، لاسيما حينما يروي اعترافًا داخليًا لأبنائه، أو يرثي وطناً لم يكتمل.
في هذه القصيدة يتحوّل الطحين من رمز للبقاء "كان أبي يُكدِّس الطحين في مخابئ البيت" إلى متراس بدائي في وجه آلة الحرب "تبني من أكياس الدقيق متراسنا"، ويتحوّل "الرعد" من موسيقى تبشّر بالمطر"كم هدهدني الرعد الحنون" ، إلى صفّارة إنذار للدمار والقصف" وكلما دوّى قصف في الجبال أقول لهم إنه الرعد". ويتحوّل البحر من رمز للسكينة "أحدق في بحر يتلو أمواجه على مسمع الحجر" ، إلى رمز للخطر. "وغزاةٌ من خلف البحر مروا بقمح الكهوف كالجراد" . وراية الوطن، من رمز للشرف، إلى شهادة على الخيانة والانحدار" وأن الراية التي وقفتُ لها يوماً خاشعاً ستقصفني ". والخريطة والكتاب، من قنديلٍ للمعرفة، إلى سؤال يتيم بلا إجابة. أما المطر، فلا يأتي بالخصب، بل يصبّ معدنًا في العيون، يعمي البصيرة.
مضامين إنسانية
في هذه القصيدة لغة شعرية مؤثرة، تلامس قضايا عميقة، حولها الشاعرالى نصاً أدبيًا مؤثرًا بإمتياز، يحفل بالمضامين الإنسانية المتعددة كظاهرة خوف الأطفال من الحروب، والأسرة كمصدر للأمان والدفء العائلي، وحب الوطن، واستعادة الذكريات والسلام والمحبة وغيرها . لتعكس هذه المضامين معاناة الإنسان في مواجهة الحروب والصراعات، مع دعوة الشاعر إلى بناء مستقبل يعتمد على السلام والمحبة بدلاً من العنف والدمار.
الأسرة مصدر الأمان
يفتتح العوكلي قصيدته بمشهد لطفل يرتعد من صوت "الرعد"، فتواسيه أمه، مشيرةً إلى انه ليس سوى صوت طبيعي ولاخوف منه : "تلفني أمي بحديقة من القرنفل، وتهمس: لا تخف .. إنه الرعد يا ولدي" لاحقًا، يتحول "الرعد" إلى استعارة مرعبة للحرب، والخوف
البري في الطفولة. هذا المشهد الحميمي يحمل دلالات الحماية والاحتواء من الأم كرمز للعطف والأمان ،والحنان ، تسعى فيه الام بهمس لتخفيف خوف طفلها. فيمتزج الحنين مع كان يخفيه الواقع وما يحمله الغد من غموض حين يتحول هذا الصوت ليصبح استعارة للحرب، والخوف والرعب الحقيقي في مرحلة النضج."لكن كيف لوهمي أن يصمد وهم يعرفون هوية الانفجار من نبرته".
ومن المضامين الانسانية التى نقلها لنا الشاعر الأسرة كإطار اجتماعي متماسك ومصدر للقيم والمبادئ التي تشكل شخصية الفرد فأشارللأب والأم كركيزتين أساسيتين في حياة الطفل. فالأب يتكفل بتكديس الطحين استعدادًا لمواجهة الحرب: "كان أبي يُكدِّس الطحين في مخابئ البيت ... لعلها الحرب تندلع"، بينما الأم تقدم الدعم العاطفي وتزرع الطمأنينة في نفس الطفل.الى جانب دورها في الإعتناء بأسرتها "وكلَّ صبح تُشيد من الحطب المبلول نارنا الصغيرة رعدٌ، تقول أمي".
وفي لفتة انسانية تعبرعن التواصل بين الأجيال في الاسرة تتجلى في اعتذار الشاعر لأبنائه وندمه لإنه لم ينقل لهم كل ما يحتاجون لمعرفته عن الحياة، مثل كيفية التعامل مع الحرب أو فهم اللغة السياسية:"عذراً أولادي لم أجمع الدقيق من رفوف الغيم ولم أعلّمكم كيف تنحنون لتمر الرصاصة فوق رؤوسكم"كما لم ينقل لهم تحذيرات والده، وبالتالي لم يستطع حماية أبنائه من نفس المصير:"حدثتكم عن مزمار الوادي ... ولم أخبركم بوسواس أبي القديم".
الوطن مفهوم جديد
كما حضر الوطن بشكل عميق في القصيدة حين وصفه الشاعر بوصف يتجاوزالمعنى التقليدي فهو ليس مجرد خارطة أو علم " ذاك هو الوطن الذي لم نقابله بعد" بل هو مكان يحمل مشاعر وأحاسيس إنسانية مثل الفرح والحب، والسلام، والسكينة: "وارسموا الوطن بيتاً" هنا، يتحوّل الوطن من كيان سياسي إلى حالة شعورية. ومن حب الشاعر لوطنه أرتأى ان ينتقد صراحة الأنظمة التعليمية التي تقدم الوطن كمفهوم جامد، ويؤكد على أهمية إعادة تعريفه بما يتناسب مع حاجات الإنسان الداخلية "انسوا كل هرطقات المدارس عن الوطن، وانصتوا من جديد لدبيب الأرض في دمكم" ويطلب من أبنائه أن يمسحوا خريطة الوطن التقليدية "فامسحوا الخارطة من كراساتكم القديمة". وويعيدوا رسم الوطن،لا كحدود سياسية بل كحالة شعورية "ارسموه ضحكةً في أطلس الروح ... يحده من الشمال حب ومن الجنوب وتر" وبذاك يرسم سالم العوكلي صورة جديدة للوطن ليست سياسية، بل وجدانية - وطن الحب، الموسيقى، الطمأنينة، مؤكداً ان لا وطن الحرب والشعارات. "حين يقول لكم الجار صباح الخير، حين تمشون في الأرض مرحاً، حين تسكرون بعطر الشيح في المساء الخريفي... ذاك هو الوطن الذي لم نقابله بعد"وهذه دعوة منه للجيل القادم أن ينزع القداسة عن الخرائط، ويعيد تشكيل الوطن كما ينبغي أن يكون: مساحة إنسانية حرة، لا ساحة دم.!!!
الوطن في القصيدة مساحة من الذاكرة التي تحولت مع مرور الزمن إلى مكان مليء بالألم، حين يستعرض الشاعر بشيء من الحرقة وبرمزية عميقة راية الوطن ، فكما هي رمز للوطن أو الانتصار، فإنها تصبح في في نهاية القصيدة إلى رمزية للخيانة وللدمار:"لكن لا أحد أخبرني أن الراية التي وقفتُ لها يوماً خاشعاً ستقصفني" هذا التحول يُظهر كيف أن الرموز الوطنية التي كنا نعتقد أنها ثابتة تُصبح في ظل الحرب أدوات للدمار. العوكلي هنا يعبر عن خيبة أمل عميقة في وطنه الذي لم يعد يمثل الأمان، بل تحول إلى ساحة للقتال والموت. ثم وفي لحظة إنكشاف كامل يقول الشاعر: " لأن الوطن لم يأتِ بعد. ولأن الرعد، هذه المرة، لم يكن مطرًا. بل صوت الحقيقة، حين تصل متأخرة."
الحرب والموت
كما انتقد الشاعر بشدة الحرب وما تسببه من دمار وإراقة للدماء. فيقول: "كم كانت حربك نبيلةً يا أبي"، في إشارة إلى أن الحرب قد تبدو ضرورية في بعض الأحيان، لكنها دائمًا تؤدي إلى الخراب...ويمضي مركزأً على الجانب الإنساني من هذه الحرب حين يتساءل: ماذا تبقى من الإنسان بعد الحرب؟ "دم يابس على أطراف أصابعك وغزاةٌ من خلف البحر مروا بقمح الكهوف كالجراد" و"لم أعلّمكم لغة الزناد ولا كيف تبنون متراساً من الطحين".
الشاعر تطرق إلى موضوع الحرب، فقام بتصوير المفارقة المؤلمة بين الماضي والحاضر، مفارقة كشفت عن نفسٍ مأزومة، مثقلة بالتناقضات والانكسارات، والإحساس بالخذلان العميق والخوف من حرب خارجية ضد غزاة قادمون بسفنهم من البحر" أبي الذي رأى الغزاة يهبطون من السفن"، وحرب أهلية يعيشها الابن " وقومي هم الغزاة يا أبي " يتحول فيها الأخ إلى عدو: "ولم تعلمني كيف أنجو حين يكون العدو أخي". وهنا تحديداً يُختزل التحول الثقافي العنيف في المجتمع، حيث تغيرت أشكال العدو، وتغيرت مفاهيم النصر والهزيمة، ويرزت الخيبة من الذات الجماعية، عن الوطن الذي انقلب على نفسه. بحرب أهلية انتج بشكل مأساوي مباشر موت عنيف، رسمه الشاعر في صورة مؤلمة جدا تجمع بين القتل، والفقدان، والخيانة،وتحمل في طياتها تعقيدًا نفسيًا حادًا:"المقتول أخي والقاتل". صورة سوداء قاتمة تبرز التضارب الداخلي في العلاقة الحميمة بين الأخوين، حيث يُشَرِّح الشاعر واقعًا مريرًا يتمثل في أن القتل لا يقتصر على كونه فعلًا خارجيًا بين شخصين متنافرين، بل إن القاتل قد يكون في النهاية من العائلة نفسها، أي من الأخ، وهذا الصراع بين الأخ والمقتول يتجسد في ومضة قاتلة ذات حمولة أخلاقية وفكرية معقدة.
ثم يمضي الشاعر في سوداوية معقدة حين يطرح تساؤلات حول حدود العنف البشري في أجواء الحرب أو النزاع الداخلي، حيث يصبح القتل شيئًا يوميًا وطبيعيًا حتى حين يكون الضحية هو من كان يومًا قريبًا، فتتعاضم صورة الموت بشكل مروع وتظهر التناقض في الزمان والمكان بقوله: " وهذا الرأس الملفوف بالقصديركأني شربت معه القهوة ذات صباح". هذه العبارة تعكس الاندهاش والتأمل في الحميمية العميقة بين الشخص المقتول والشاعر، حيث يضيف الشاعر لحظة عادية، ربما كانت صباحًا روتينيًا، مع الشخص الذي أصبح الآن جزءًا من الموت العنيف. وإدخال فعل شرب القهوة في النص، وهو عمل روتيني يومي، يعطي دلالة على كيف يمكن أن تنقلب اللحظات البسيطة والمتكررة إلى مشهد من الفقد المأساوي. براعة الشاعر هنا في التلاعب بالزمن بين الفعل العادي والحدث العنيف يعزز من فكرة العدمية في الحرب، حيث تتداخل اللحظات الطبيعية مع اللحظات المأساوية لتسير حياة الناس في متاهات لا تكاد تميز بين الحلم والواقع.
ذاكرة مؤلمة ومستقبل مجهول
"الذاكرة" في القصيدة حضيت بدوراً محورياً في استدعاء تجارب الماضي وتأمل الحاضر والمستقبل. فهي " ذاكرة" مشوشة ومليئة بالتفاصيل الموجعة.والإشارات والكوابيس التي تطارد الشاعر بسبب ذكرياته عن الحرب والدمار، فيستدعي عبرذاكرته تجارب مؤلمة منها : رؤوس مقطوعة،" هذا الرأس الملفوف بالقصدير كأني شربت معه القهوة ذات صباح " ، وأطراف مبتورة " والأطراف المبتورة تمشي كلَّ ليلٍ، في كوابيسي، إلى قبورها الصغيرة"، والأعداء الذين دمروا الأمن والاستقرار"ولأن أبي الذي رأى الغزاة يهبطون من السفن" فالشاعر أيضا يظهر الأب هنا كحارس "للذاكرة"حين يشير إلى مشاهد الغزو والعدوان، مما ينقل إحساسًا بالتاريخ المؤلم الذي يتردد صداه عبر الأجيال. ذاكرة أب مشبعة بأهوال الحرب وحكمة التجارب، ليقارنها بذاكرة الأبناء التي تتشكل وسط عالم مشبع بالتحديات والصور العنيفة المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
عبر"الذاكرة" نقلت القصيدة تجارب جيلين مختلفين، جيل الأب الذي عاش زمنًا كان فيه الوطن أملًا بعيدًا، وجيل الابن الذي يعيش واقعًا مشوهًا بالحروب والمآسي. أب يرمز إلى مستقبل مجهول وأمل هش بعيد المنال، وأبن يمثل الحقيقة المرة وذاكرة مؤلمة تواجه الحروب الأهلية. هذه الثنائية بين جيل عاش الحلم وآخر يكابد الموت يوميًا، وهذه الحركة الزمنية بين الماضي والحاضر والمستقبل ستبقى راسخة في ذاكرة الأجيال القادمة تتيح للقارئ أن يرى كيف يتبدل الفهم لدى الأجيال المختلفة.
كما يضيف الشاعر بعدًا تاريخيًا عبر إبراز الأب كحارس "للذاكرة" الوطنية وشاهد على الغزو والعدوان،"ولأن أبي الذي رأى الغزاة يهبطون من السفن" ينقل لنا إحساسًا بالتاريخ المؤلم الذي يتردد صداه عبر الأجيال. أنها "ذاكرة" مؤلمة تتعلق بالغزاة محفورة في فكرالأب وقلقه، تُنتقل إلى الأباء والأبناء بطريقة غير مباشرة.هذه "الذاكرة" المثقلة بأهوال الحرب، والتدابير الوقائية الفاشلة ، تجبر الأب أن يقدم بحكمة وخيبة أمل إجابة عائمة وهو" يرى السؤال المطل في عيوننا، فيقول :لعلها الحرب تندلع ." ليعكس بقوله " لعلها الحرب تندلع ."حالة من الترقب القلق للمستقبل. هذه اللغة المتوازنة تكشف عن أمل هش يتحول الى وهم. وهنا، يبرز التباين بين الجيل الذي عاش الأمل البعيد والجيل الذي يعاني يوميًا واقعًا مؤلمًا. وبين ذاكرة الابن "الملساء كأنها البياض"، وصولاً إلى ذاكرة الأحفاد المليئة بصورالعنف والدمار المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، والتي جعلت الشاعؤ يتساءل بدهشة وحرقة والم "فمن أين جاءت كل هذه الرؤوس المقطوعة إلى ذاكرة نقالاتكم"ليسلط الشاعر الضوء على تحولات جوهرية في نقل المعرفة وتشكيل الوعي الجمعي.
ذاكرة الأب المثقلة بأهوال الحرب، وخيبة الأمل لإنه الشخص الذي يجب أن يطمئن أو يوضح، لكنه لا يملك إلا إجابة عائمة وهو" يرى السؤال المطل في عيوننا، فيقول :لعلها الحرب تندلع." ليعكس بقوله " لعلها الحرب تندلع."حالة من الترقب القلق للمستقبل. هذه اللغة المتوازنة تكشف عن أمل هش وخيبة داخلية، بينما تبدو ذاكرة الأبناء مليئة بصدمات الواقع والدمار. وهنا، يبرز التباين بين الجيل الذي عاش الأمل البعيد والجيل الذي يعاني يوميًا واقعًا مؤلمًا.وبين ذاكرة الابن "الملساء كأنها البياض"التي تعكس كيف أن ذاكرته فيها النقاء والبراءة ثم أصبحت مشوهة بسبب الحرب والموت الذي يلاحق الأجيال، وصولاً إلى ذاكرة الأحفاد المليئة بصورالعنف والدمار المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وبينما تتغير طبيعة الذاكرة من الرواية الشفهية إلى الصورة الرقمية، "فمن أين جاءت كل هذه الرؤوس المقطوعة إلى ذاكرة نقالاتكم" يتساءل الشاعر بدهشة حول كيفية انتقال الرؤى العنيفة إلى ذاكرة النقالات، مسلطًا الضوء على تحولات جوهرية في نقل المعرفة وتشكيل الوعي الجمعي. وبذلك يرسم العوكلي ببراعة صورة مؤثرة لذاكرة الأجيال،صورة تجمع بين ثنائية الحلم والألم، لتؤكد أن الماضي والحاضر سيظلان حاضرين في تشكيل مستقبل محفوف بالغموض.
وختاماً
هذه كانت قراءة عابرة سريعة وغير مكتملة ، من قاري غير متخصص في النقد ، لقصيدة كاملة جسدت معاناة إنسانية عميقة ومأساة هوية تصارع لتظل قائمة. قراءة لقصيدة كتبها شاعر كبير، وطعمها بأسلوبه الرمزي الغني بالإيقاع والصور، فتحولت لعملِ مليئًا بالعاطفة والتأمل، عمل يستحق بإمتياز أن يحتل مكانة بارزة في الأدب العربي المعاصر.
الكلمات المفتاحية:
قصيدة رعد سالم العوكلي،تحليل نقدي قصيدة رعد،الشعر الليبي الحديث،رمزية الرعد في الشعر،قصائد عن الحرب والهوية،نقد أدبي لقصائد عربية،الشعر والواقع السياسي العربي،قصيدة عن الخيانة والخذلان،تحليل الصور الشعرية والرمزية،إيقاع الشعر العربي الحديث.
نرحب بتعليقاتكم