بسخرية لاذعة، ولغة شعرية مكثفة، مشحونة بالرموز المعبرة، ومتشابكة مع المعاني المباشرة، تبدو قصيدة "الناطحون" وثيقة موجعة، تدين وتسخر من كل أشكال السلطة، ومرثية مبطنة تتشابك فيها الرموز المعبرة مع المعاني المباشرة، فتفتح أمام القارئ حقولًا خصبة للتأويل، الذي يساهم في إثراء القصيدة ويمنحها آفاق متعددة للتفسير، ويحولها لصرخة رمزية واعية تختزل صراعًا وجوديًا، يتجاوز الظاهر إلى ما هو أكثر التباسًا، وهذا (ربما) جعلها من النصوص الشعرية العميقة التي تستحق القراءة والتحليل.
هنا محاولة لإنتاج تحليل سيميائي معمق لقصيدة "الناطِحون" للشاعر الليبي رامز النويصري، الذي يكشف الرموز والدلالات المخفية في نص شعري ساخر يحتج على السلطة والهوية والنظام، ويرثي فيه ضياع البوصلة لدى الجموع، وينسج من لحظة عبثية سردًا شعريًا ينتمي إلى ما بعد الحداثة، حيث تختلط السلطة بالضحك، والنظام بالفوضى، والوعي بالقطيع.
 |
الشاعر رامز النويصري |
📅 الخميس 1 ابريل 2025م
✍️ قراءة وتحليل : سالم أبوظهير
الشاعر
رامز رمضان النويصري، شاعر وقاص وناقد ليبي، وُلد في القاهرة عام 1972م ونشأ في طرابلس حيث يقيم حتى اليوم. بدأ مسيرته الأدبية عام 1988م، والتحق بالعمل الصحفي سنة 1990م أثناء دراسته بكلية الهندسة، ونُشرت نصوصه في صحف ومجلات محلية وعربية، كما تُرجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية. أصدر عدة مجموعات شعرية ونقدية منها: قليلاً أيها الصخب (2003م)، مباهج السيدة واو (2004م)، بعض من سيرة المشاكس (2004م)، فيزياء المكان (2006م)، وبلاد تغار من ألواني الزاهية (2012م)، بالإضافة إلى كتاباته النقدية مثل قراءات في النص الليبي بجزأيه، وفي اقتناص القريب.
أنشأ النويصري موقعه الشخصي "
خربشات" وموقع "
طيوب" عام 2000م كأول منصة أدبية ثقافية ليبية، وشارك في عدة إصدارات جماعية مثل الشعراء الشباب ونهر الليثي. عمل في صحف "المدينة" و"الشط" و"الجماهيرية"، وهو عضو برابطة الأدباء الليبيين واتحاد كتاب الإنترنت العرب، ومدير تحرير فصلية الفصول الاربعة، وقد ثم تكريمه في العديد من المحافل الأدبية المحلية والدولية تقديرًا لإسهاماته الأدبية والثقافية.
القصيدة
الناطحون
مع الشكر للصديق:أسامة حميدان
المغامرة لم تبدأ بعد، والأصدقاء يسقطون..
شكل الوقت، لا يهم،
وأغنية الوصول ليس لها من داع
وحاشية الطريق لتكن فارغة،
وهادئة عندما نمر من هناك
حيث لن يكون من المهم صبغ النهار بلون العلم
أو منح الصغار شرائط بأسمائنا
أو واجهات المحلات صورنا،
حيث لن تشبهنا، ولن يتعرف علينا أحد
فالصور القديمة،
تظل قديمة، بدون تعريف
ونحن الآن نحمل نظام قوس قزح
وتغطية السماء، على مدى الساعة
والطائرة مازلت تحلق بنا،
تعبر مثلث الرغبة باتجاه نشوتنا البكر،
وخزائن الجسد،
وحدائق من فتياتٍ بحجم الرحلة، والمكان
سنختار من الحدائق ما نشاء،
ونلون غاياتنا بألوان العلم الرسمي،
/الذي لا نريد أن يكون النهار بلونه../
ونمر على واحدنا، واحداً، واحدا
حيث من المهم أن نكون جميعاً، بذات الرحلة
وبذات الشكل،
لا يفرقنا نوع لباس أو عطر
حتى لتحتار آلات التصوير
وتظن أنها أصيبت بالاشتباه، والتكرار
وحدنا من يعلم أن اللعبة، أننا من يحتل العمود الأول
ولابد من صورنا المتشابهة، في صف
وتحت كلٍّ منها "واحدنا جميعاً"
حيث سيظن "الرقيب" أنه عملٌ مقصود،
وأن الهيبة طيلت،
فيامر بتعديل الصور، وشطبها كونها متشابهة،
ونحن "واحدنا جميعاً" لا نتشابه،
وتفرقنا رؤيتنا للموضوع،
دقق سيدي "الرقيب"، وستكتشف كم من فروق بيننا
وكم من علامات شطب يمكنها أن تميزنا نحن "واحدنا جميعاً"
ركز قليلاً، في جباهنا
ستجدها مستوية من النطح،
فكم عبأنا السهول من صدع نطحنا،
ونحن نتفاخر أمام المعرفة،
أيُّنا يغريها بإطاحة تفلق رأس المقابل
دقق،
وستكتشف أن كاتب المقال، كان معذوراً
لأنه لم يقرأ جيداً،
وفكر بأن أقرب الأمور، أبعدها
/منظور حداثوي، يقبل الجدل../
وأبعدها، ما يقبل القسمة على اثنين..
ستكون الطائرة قد استوت على مدرج الهبوط
وسيكون البساط الأحمر، قد مد
وسيكون طابور التشريفات في استعداد
وسيكون مندوب البلاد جاهزاً،
ولن يسمع مشرف الاستقبال وهو يقول له:
"دعه يبدأك بالسلام"
/سيقطع الصوت، ضجيج الطائرة/
سيرحب المسؤول
ونعتبر أنه سنة البلاد، وأن الترحاب المبكر عادة
وسنهمس: يمكننا وضعها ضمن الخطة..
"واحدنا جميعاً" نتقدم،
النشيد الوطني،
المرور بطابور الشرف،
صالة الاستقبال، وضرورة أن يكون هناك تصريح،
حفل العشاء، فيما بعد،
سيكون مطرب البلاد مزعجاً،
وستكون أغنية الترحيب، اعتباطية الكلمات
/هذا منظور حداثوي أيضاً../
واعتباطية حركات الراقصة، ستلفت انتباهنا أكثر
في حجم المساحة التي تحتلها على الخشبة،
وسينتهي العشاء بها،
ويفتتح الاجتماع على ابتسامتها،
أدركنا سر البلاد،
في طريق عودتنا،
ستعلم الراقصة أنها لم تكن ترقص بعفوية،
وإنها لم تجد الدور، وأنها انتهت تلك الليلة..
وإننا في المرة القادمة، لن نجدها،
وسنجد فقط، علامات النطح مسجلة على ورق حساس
يحمل ختم الدولة،
ورسم الحدود..
القراءة
"الناطحون" قصيدة تنتمي إلى مدرسة ما بعد الحداثة الشعرية، بأسلوبها القائم على تفكيك اللغة، وتعرية الخطاب، والانزياح عن المعنى المألوف، وتكثيف السخرية كأداة معرفية وشعرية في آنٍ واحد. هي قصيدة احتجاجية تحمل بين طياتها توصيفاً مؤلماً للحالة الليبية الراهنة، وتدعو صراحة إلى التمرد ومواجهة الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة.
قصيدة "الناطحون" تسخر من أشكال الطقوس الرسمية، وتفضح ازدواجية الوعي الجمعي في عصر الصورة والشعارات، وتقدم بجرأة ووضوح نقداً فلسفياً واجتماعياً عميقاً، وتكشف عن شخصية شاعر واع بمأزق الإنسان الليبي الحديث، شاعر يعبر ببراعة ومرارة عن قلقه إزاء آليات السلطة القمعية، وقدرتها على التلاعب بالإنسان، ويطرح تساؤلات مهمة حول العلاقة بين هذا الإنسان والجماعة ، وينقل مخاوفه المشروعة من أن تتشظي الهوية الاصلية تحت ضغط القمع والاستبداد، فتتحول لهوية مشوهة محاصرة بين التكرار والانكسار، أو هوية هشة مزيفة موشومة بعلامات "النطح" الجماعي.
🌟 "الناطحون" عنوان يعكس أزمة جيل
عنوان قصيدة "الناطحون" عتبة لايمكن ان نتخطاها، وهو هنا عنواناً مكثفًا يشير بمرارة إلى قوة الجسد والعزيمة، والازدواجية بين العنف والمثابرة والى صراع دائم وإستدامة في مواجهة التحديات بشكل يعكس أزمة جيل يناطح الزمن والتحديات والمستحيل، وعبث السلطة الغاشمة ، والقهر، والواقع المأساوي المؤلم، ليصبح "النطح" في هذا العنوان محاولة عبثية لبلوغ قمة لا يمكن لمسها. ودلالية تستدعي تأملًات عميقة متعددة ، وتضع القارئ مباشرة في جوّ الصراع الدائم والمستمر بعناد وبلا توقف.
إختيار "الناطحون" كعنوان كان موفقا في أن يكون أول بوابة رمزية في القصيدة، ومدخلًا قويًا لفهمها، عنوان تتقاطع فيه الرمزية مع الواقع، والحلم مع الألم، فهو أسم فاعل يشير إلى جماعة فاعلة من البشر لا يتخلون عن مواقفهم، ويمضون قدماً حتى لو كان الثمن الاصطدام بعناد وبعنف وبدون توقف، وفيه اشارة مجازية ترمز للقوة والعدوانية والفعل الغير مجدي، فالصيغة الجمعيّة للفعل "نطح" توحي بالفعل المتكرر، العنيف، واليائس، كما لو كان صادرًا عن كائنات حبيسة تصطدم بجدران لا تنكسر، وترمز للمواجهة والصراع بعبثية وعناد واستمرار، وبشكل مؤلم دون استسلام ."نطح" في وجه المجهول أوالشعارات الزائفة او السلطة الغاشمة، ويعكس مأزقًا جماعيًا لا فرديًا،
"الناطحون" عنواناً نجح الشاعر عبره، في توظيف كل الدلالات المعمقة، ليصوغها في كلمة واحدة، رسم بها ملامح وعالم القصيدة، وهيئا ذهن القارئ الى أنه أمام نص يشتبك مع الجماعة، والتاريخ، والسلطة، وأن ما سيأتي ليس مجرد نص شعري عابر، بل وثيقة صراع يصوغها "الناطحون" الذين هم ليسوا فردًا واحدًا بل هم نحن جميعنا، حين تخوض صراعًا عبثيًا لا ينتهي ولا نملك إلا العناد سلاحًا، نتناطح به، وندّعي أننا لا نتشابه، بينما نحمل ذات القهر والالم والعدم الذي ننطح فيه.، ونفعل تماما ما فعل دون كيشوت وهو يهاجم طواحينه.
🌟 صور شعرية ومفارقات تصوغ واقع مأزوم
اللغة في هذه القصيدة ليست وسيلةً للتعبير فحسب، بل فعل مقاومة، وصوت احتجاج ، وأداة صدام ومواجهة، مشحونة بأقصى درجات التوتر الشعري، لغة وإن بدت بسيطة ومباشرة، تخفي وراءها تعقيدًا داخليًا. فهي تعتمد على الاقتصاد اللفظي، لكنها تحقن الكلمات بطاقة رمزية شديدة الألفاظ مثل: "النطح، الصدع، الجباه، الطائرة، الرقابة، العمود الأول، الرايات، الراقصة" . لغةِ تُشكّل معجمًا خاصًا ينتمي لعالمين متداخلين: عالم الجسد المهزوم، وعالم السلطة العابثة، لغة زاوج فيها النويصري ببراعة بين المباشرة الصادمة التي لا تهادن، والرمزية الكثيفة التي منحت النص عمقاً إضافياً متعدد التأويلات، فعبارات مثل "صدع نطحنا" و"تفلق رأس المقابل" تبدو بمعاني متعددة وكأنها جراح مفتوحة ، وصرخات مكتومة تهز القارئ من الداخل، أو كحجر تم رميه بحدة في وجه الركود والتواطؤ. انها لغة تميل إلى المباشرة، وتحمل حس متدفق عالي، يمكنها من الاحتفاظ بقدرتها على الإدهاش، حين تخرج من دائرة المجاز، وتدخل في منطقة الصدام العاري، حيث لا شيء يُخفي الوجع أو يلطّف من وقع الفعل. إنها لغة تنضح بالتوتر، وتُحافظ على إيقاع داخلي ينبض بالحركة والتأهّب الدائم.
في قصيدة "الناطِحون" لا يقدّم الشاعر إجابات، بل يفتح جراحاً، ويثير أسئلة، يقبض على لغته ويجعلها تتحرك ككائن حيّ بين ما يُقال بجرأة ووضوح، وبين ما يُتركه للقارئ كي يلتقطه من فراغات المعنى في نص فاعل ومؤثر يضج بالحياة حتى في لحظات الصمت والغياب. فعندما يقول الشاعر" نطحوا الحائط... فارتدّوا جروحاً"، يتحوّل الفعل الحركي إلى أثرٍ نفسيّ، فينقل "النطح" من كونه صدامًا مادّيًا إلى صورة للانهزام الداخلي المتكرّر، وكأن الجدار ليس سوى الواقع القاسي الذي يرتدّ عن رؤوسهم بصمتٍ جارح. ثم وفي صورة صارخة وصادمه ، يفتتح الشاعر المشهد برأسٍ يقارع جدارًا حتى يفقد ملامحه حين يقول:" ركز قليلاً، في جباهنا، ستجدها مستوية من النطح" وهذه الصورة تتجاوز الألم لتصبح شهادة حية على فعل مقاومة عبثي ومزمن، حتى استوت الجباه وكأنها توقفت عن الانفعال، جباه تخبرنا عن تاريخ طويل من الاصطدام بالواقع، حتى تساوت بالحيطان، من أثر التشقق، جباه تُجيد الصمت أكثر من القول، وتفضح ما لا يستطيع الخطاب السياسي أن يعترف به. وهنا لا تحتاج الصورة إلى تفسير، بل إلى إنصات. وفي مشهد لايغيب عنه الفعل السياسي يتحول "النطح " إلى طقس جماعي، "كم عبأنا السهول من صدع نطحنا"،وكأن الجماعة المقهورة لاتترك آثارها على جسد الخصم الضحية فحسب بل على الجغرافيا، في السهول والفراغات، وكأن نضالها محفور على جلد الأرض.
ويرسم الشاعر ببراعة مشهدًا بصريًا تهكميًا عميقًا حين يقول: " حتى لتحتار آلات التصوير، وتظن أنها أصيبت بالاشتباه، والتكرار"، هذه الصورة تلخص بشدة وعمق مأزق الفرد داخل مجتمع الاستنساخ القسري، حيث تصبح الوجوه نسخًا بلا فروق، ويغدو الألم عامًا، بلا هوية ولا خصوصية. الكاميرا، المفترض أن توثق الحقيقة، تُصاب بالعمى. ثم يمضي في مشهد رمزي أخر أكثر تعقيدًا، فيقول:"الطائرة ما زالت تحلق بنا، تعبر مثلث الرغبة باتجاه نشوتنا البكر" فتتحول الطائرة إلى كائن رمزي وسلطة غامضة تقود الحشود دون وعي نحو مصير مجهول ملبّد بنشوة مزيّفة. والرحلة هنا ليست فعلًا إراديًا وليست انتقالًا ، بل سقوط جماعي في شرك رغبة مصطنعة تفتقر للوعي.
ولأن قصيدة "الناطِحون" ليست ترفًا بلاغيًا، بل وثيقة رمزية مفتوحة على التأويل، تنبني على ثنائية الخيال والصدمة، وعلى احتكاك الجسد بالمكان والسلطة.لذلك نجد النويصري لا يكتفي بالصورة السطحية، بل يبني عالمًا رمزيًا يتقاطع فيه اليومي مع المجازي: فالطائرة التي "ما زالت تحلق بنا" لا تنقلهم فحسب، بل توحي بسلطة كبرى تتحكم في المسار، بينما تتحول "الرحلة" إلى مجاز للحياة أو لمسار نضالي عبثي. أما "الراقصة" فهي ليست مجرد تفصيل سردي، بل تمثل غواية اللهو وسط مشهد سياسي متخم بالشعارات والتشريفات. وتأتي "حدائق من فتياتٍ بحجم الرحلة" كاستعارة خادعة للترف المقنّع الذي يُغطي فراغًا روحيًا عميقًا. هكذا، يتشابك الرمزي بالحسي، ويتحوّل النص إلى متاهة دلالية مفتوحة على تأويلات متعددة لا تنتهي. وهكذا، تُراكم القصيدة شبكة من الصور المتداخلة التي تَحمل معنى الجرح، وتفضح فوضى الواقع. الأجساد التي "تنطح" والوجوه التي "لا تُعرف" والحدائق التي "بحجم الرحلة"، كلها ليست مجرد صور شعرية، بل صرخات عنيفة ضد القمع والقهر والظلم..
ورغم كل ماسبق ينقلنا الشاعر لمشهد مختلف أخر يسخر فيه من حفل رسمي: "وسيكون مطرب البلاد مزعجاً، وستكون أغنية الترحيب اعتباطية الكلمات... واعتباطية حركات الراقصة ستلفت انتباهنا أكثر" في هذا الكرنفال الساخر تنقلب رنفالًا ساخرًا حيث تنقلب المهمات والوظائف: فالمطرب يُخدّر، والراقصة تشتّت، والسلطة تواصل استعراضها الزائف، بينما "الناطحون" يشاهدون بلا حيلة..!!!، ثم وفي موضع اخر من القصيدة يقرر الشاعران يقلب العلاقة مع الطبيعة رأسًا على عقب فيقول: " نحمل نظام قوس قزح، وتغطية السماء، على مدى الساعة"، فيتحول "قوس قزح" من رمزاً للجمال العابر شديد الصفاء قلما يتكرر، إلى نظام سياسي ، وتتحول البراءة الى اداة قمع ، ويصبح الجمال سجنًا بصريًا. وفي صورة حسية مركبة أخرى، تظهراستعارة خادعة للترف المقنّع الذي يُغطي فراغًا روحيًا عميقًا "وحدائق من فتياتٍ بحجم الرحلة، والمكان" هذه الصورة تنقل المتلقي إلى مشهد سينمائي مفعم بالإيحاء والغرابة. فالجسد الأنثوي يُستعار هنا كرمز للمتعة، أو كديكور ملازم لرحلة النخبة، و تُختزل الأنوثة في وظيفة رمزية غير شريفة ، ويتحول المكان برمته هنا من وطنًامقدساً ، إلى مقراً لاستهلاك متعٍ فاسدة ومشاهد تشريفية لا قيمة لها...!!!. هكذا، يورطنا الشاعرفي تشابك الرمزي بالحسي، ويحوّل قصيدة "الناطحون" إلى متاهة دلالية مفتوحة على تأويلات لا تنتهي.
وفي أكثر الصور قسوة ودهشة، ينهي النويصري قصيدته بجملة تصرخ دون ضجيج: " وسنجد فقط، علامات النطح مسجلة على ورق حساس، يحمل ختم الدولة، ورسم الحدود" فيتحوّل الجرح إلى وثيقة،وسجل يحمله بيروقراطي، وكأن الألم الفردي لم يُفهم إلا بوصفه مادة أرشيفية. إنها قمة المفارقة بين الجسد ككائن حي، والدولة كجهاز تؤرشف وتحفظ الالم والمعاناة.
🌟 التكرار والإنزياح
"الناطحون" كما اسلفت لا تُقرأ من جهة واحدة، ولا تكتفي بطرح مضامين ساخرة، أو رؤية مضادة للنسق السائد ، بل تفتح بوابات متعددة للفهم والتأويل، ما جعلها مثالًا حيًّا على الشعر الحداثي الذي يُخاطب وعي القارئ لا خياله فقط، حيث اللغة ليست وسيلة تواصل بقدر ماهي أداة للخلخلة والتمويه، حيث يستخدم الشاعر التكرار والانزياح لإرباك المتلقي وكشف هشاشة الصور الثابتة، وهذا من سمات شعر ما بعد الحداثة.
وقد سعى النويصري في هذه القصيدة إلى كسر المألوف، وتفكيك الصور الذهنية التقليدية، من خلال اعتماده على أدوات سيميائية فاعلة، أبرزها: سيميائية التكرار وسيميائية الانزياح.
فالتكرار في هذه القصيدة لم يكرر القول فحسب ، بل يُمعن في كشف زيفه، فيخلق إيقاعًا مضادًا يُربك القارئ ويقوده نحو إدراك فجوات المعنى، حيث يكمن التهكّم والاحتجاج. أما الانزياح، فيعمل كمحرّك دلالي، يُخرج الكلمات من حمولتها المعتادة، ويفتحها على أفق من التناقضات والاحتمالات، ليمنح النص طاقته التأويلية القصوى. ولذلك، فإنّ تأمل هذين البُعدين في القصيدة ضرورة نقدية لفهم عمق الرؤية التي بناها الشاعر وهو يُزيح القارئ عن مقعد المتلقي إلى موقع الشريك في إنتاج الدلالة، عبر تحفيزه على التقاط الإيقاع المخفي في التكرار، وحثه على ملاحقة الانزياح لإعادة بناء المعنى لا كما يُقال ويبدو ظاهريا ، بل كما يُسرب خلسةً عبر اللغة ويتستر بها.
سيمياء التكرار
التكرار واضح في جسد القصيدة، وهو عتبة لافته فيها ، والى جانب كونه وظيفة إيقاعية، فقد أسهم في بناء المعنى وتكثيفه، وخاصة في سياق السخرية من الصور الجماعية النمطية. نقرأ مثلًا: "ونمر على واحدنا، واحدًا، واحدا"، يتكرر لفظ "واحد" ليؤكد التماثل القسري بين الأفراد في "رحلة" موحدة الشكل، فاقدة للتمايز، رغم التظاهر بالتماهي. ثم تتكرر العبارة:"ونحن "واحدنا جميعاً" لا نتشابه"، ونحن "واحدنا جميعاً" وهنا تبلغ السخرية مداها، إذ أن التكرار يكشف تناقضًا فجًّا: الجماعة تُصوَّر ككائن واحد، ومع ذلك يدعي النص اختلافهم. هذه المفارقة تبرز الطابع العبثي للتشابه المفروض. لكن ومن جانب اخر فتكرارعبارة "واحدنا جميعاً" تخلق نوعًا من الوحدة والتأكيد على الهوية الجماعية. وتؤسس لإيقاع ذهني متوتر، وقد وردت بشكل مدروس، حتى تحولت تقريبا الى جرسًا داخليًا أشبه بـ"لازمة" موسيقية، تضغط على وعي القارئ، وتضفي طابعاً موسيقياً خاصاً على القصيدة.
ثم يعود التكرار كنداء مباشر فيقول الشاعر : "دقق سيدي "الرقيب"، وستكتشف..." ، ويكرر "دقق، وستكتشف أن كاتب المقال..." وهذا التكرار التحذيري لا يُقصد به التأكيد فقط، بل هو دعوة إلى النظر العميق في الفروق الفردية التي يُراد طمسها، ليظهر أن التشابه في الشكل يخفي اختلافًا في العمق.
سيمياء الانزياح
أما الانزياح، فهو العصب الحيوي في بنية هذه القصيدة. منذ سطرها الأول حين يقول : "المغامرة لم تبدأ بعد، والأصدقاء يسقطون.." وتبدو الجملة زاخرة بالمفارقة، إذ يسقط الأصدقاء قبل أن تبدأ المغامرة! وهو ما يشير إلى اختلال الزمن، وانقلاب المفاهيم.
وفي قول الشاعر "ونحن الآن نحمل نظام قوس قزح" تنزاح صورة "قوس قزح" من رمزها البهي النقي إلى رمز سلطوي مؤطر، يحمل دلالة سياسية ساخرة عن "التعدد المحكوم".ونقرأ أيضًا: "الذي لا نريد أن يكون النهار بلونه"، ففي هذه الجملة يتجلى انزياح اللون من رمز للبهجة والانتماء، إلى رمز للهيمنة على تفاصيل الحياة اليومية، مما يعكس رفضًا ضمنيًا للسلطة الرمزية.
ثم في سطر لافت في القصيدة يضيف الشاعر:"فكم عبأنا السهول من صدع نطحنا" وحركة "النطح" تتحول هنا من سلوك بدائي إلى فعل جماعي عبثي يفتخر به الجميع، في انزياح ساخر من قيم الفخر القومي أو الثوري الزائف.
أما المفارقة المنطقية فتتجلى بقول الشاعر: "وأقرب الأمور، أبعدها" حيث يتم قلب التصور العقلي التقليدي، ليعبّرعن الاغتراب داخل الوضوح، والغموض داخل المألوف.
🌟البنية النفسية والفكرية
تكشف قصيدة "الناطِحون" عن تعقيد نفسي وفكري بالغ، تنبع منه رؤية وجودية تلامس جوهر الإنسان المعاصر في ظل قهر جماعي وأنظمة سلطوية خانقة. ليست هذه القصيدة فعل كتابة عابر أو تعبيرًا عن تجربة فردية معزولة، بل تمثل بانوراما شعورية وفكرية لأزمة وجودية ممتدة، تتراوح فيها النفس البشرية بين التمرد والانكسار، وبين الإدراك العميق للعبث ومقاومته.
منذ مطلع القصيدة، يضعنا الشاعر أمام مشهد جمعي يتصف بالتماثل القسري، حيث يتم تجريد الأفراد من هوياتهم لصالح كيان جماعي يُفرَض من الأعلى: "حيث من المهم أن نكون جميعاً، بذات الرحلة وبذات الشكل". هذا التصور لا يعبّر فقط عن أزمة هوية، بل عن محوٍ منهجي للفردانية، تجعل من الإنسان كائناً مراقبًا ومقيدًا في أدق تفاصيله، جسدًا يُستهلك داخل نظام يتغذى على التكرار والمراقبة والامتثال.
المراقبة، بوصفها آلية نفسية وفكرية سلطوية، تتجلى في موضع آخر حين يقول: "حيث سيظن الرقيب أنه عمل مقصود"، لتكشف هذه العبارة عن عالم مأهول بالشك، تصبح فيه النوايا محل تفتيش دائم، ويغدو الإنسان متهمًا سلفًا. هذا الإحساس بالمطاردة لا يولد الخوف فحسب، بل يزرع بذور الاغتراب داخل الذات. حتى الأفعال العفوية تُقرأ كبيانات سياسية، فيتحول كل تعبير جسدي أو لغوي إلى مساحة مشبوهة محتملة.
يلعب الشاعر هنا على مفارقات سردية عميقة، كما في وصفه الراقصة التي تلهي الجماعة: "واعتباطية حركات الراقصة، ستلفت انتباهنا أكثر". قد يكون هذا المشهد ليس تصويرًا للمتعة أو البهجة، بل تشريح دقيق لفعل الإلهاء المنظّم، حيث تُستخدم أدوات الفن والجسد لتحويل الانتباه بعيدًا عن الجدار الذي ينبغي نطحه، في تماهٍ واضح مع منطق السلطة الناعمة التي تُخدر لا تُرهِب، وتُستبدل المقاومة بالفرجة والإلهاء.
ورغم وعي الشاعر الحاد بعبثية الفعل المقاوم، إلا أن فعل "النطح" نفسه يظل قائمًا بوصفه فعلًا وجوديًا يتحدى العدم. ففي قوله: "أننا من يحتل العمود الأول"، يتجسد العناد لا كمجرد سلوك، بل كاختيار فلسفي. هذا التناقض بين إدراك الفشل والإصرار على المحاولة يمنح النص عمقه الحقيقي، ويعكس تمزق الذات المعاصرة بين معرفة الخسارة وميلها الفطري إلى المواجهة. وتماهيا مع حقل التحليل النفسي في هذا الصدد فإن كل تحول جذري في بنية الادراك الذاتي بغية الوصول الى يقين جديد ، وطريق مختلف غالبا مايكون عبر تجارب مريرة وافعال كانت غير مقبولة لكنها غيرت الحال، تماما كما قدم لنا النويصري"الناطحون" وهم يصطدمون بالعدم واللاجدوى.
واذا عرجنا على مجال علم النفس الحديث كالعلاج بالصدمات راينا كيف ان ضحايا الحروب والعنف والكوارث وسطوة الحكام قد يضطرون الى إعادة تعريف معنى الحياة والأمان وربما "النطح" وسيلة علاجية مقنعة فيها اعتراف "الناطحون" بالوجع وتقبله ومواجهته أيضا، وما اشد هذا الثمن على أنفسهم، خاصة وهم يسعون بعناد للانعتاق من سلطة المألوف.لإنه ووفقا للشاعر فهذا ليس سبيلاً سهلاً ميسوراً، بل مغامرة مروعة تبدا ب"النطح" وبه تنتهي، ووسيلة تعبيرية مقنعة عند الشاعروالمتلقي تبرر فعل "النطح" المتكرر بلاجدوى وتتحمل الألم الجارف الذي يسببه ، و يبدو كظلام قاتم لكنه في الوقت عينه قد يكون منبع ضوء وعلاج اسطوري يتحقق ويمنح "الناطحون" نظرة جديدة الى مسار حياتهم ويولد لديهم امال جديدة لهدم الحواجز والتخلص من قهر السلطة الغاشمة.والألم على رأي الفيلسوف الساخر شوبنهاور" معلما للإنسان ، والمعاناة هي جوهر الوجود وكل تفكير عميق ينطلق من رحم هذه المعاناة"
وببراعة شديدة يجعل النويصري البنية الفكرية في القصيدة تنفتح على سؤال محوري يظل معلقًا: هل "النطح" فعل بطولي أم انتحار رمزي متكرر؟ والإجابة لا يمنحها الشاعر صراحة، بل يدفع القارئ إلى مواجهتها، وكأن القصيدة ذاتها تصير مرآة يتأمل فيها الإنسان نفسه، لا ليرى صورته، بل ليفهم مأزقه. وفي التاريخ شواهد كافية لولادات فكرية جديدة أتت دائما بعد مخاض عسير وكأن في الامر شرطا قاسيا ان قيمة الحرية ليست سهلة على الإطلاق، وأن كل تجربة في الحياة هي مدرسة تزرع فينا رغبة جامحة للتغيير للافضل واعادة رسم انفسنا وذواتنا بشكل مرضي.
كما ينقلنا النويصري في القصيدة الى أبعادًا أكثر اتساعًا حين نكتشف أن "الناطِحين" لا ينطحون جدرانًا مادية فقط، بل يصطدمون بجدران رمزية أشد صلابة: "يحمل ختم الدولة"، إشارة فكرية كثيفة إلى تغلغل السلطة في نسيج الفرد، لا كقانون خارجي، بل كقيد داخلي يحدد ما يمكن تخيله أو فعله أو حتى الحلم به. الجدار هنا ليس مجرد عائق، بل هو البنية المؤسسة للعجز، حارس الصمت الجمعي، ومرآة الانكسار.
ورغم سوداوية الطرح، فإن النويصري لا يغرق في العبث، بل يبني رؤية تتداخل فيها مشاعر المأساة بالأمل غير المعلن. مفارقة "الدم والزهر" التي تحضر في خلفية النص تمنح هذه الرؤية ثراءً فنيًا وفكريًا، حيث الجمال لا ينفصل عن الألم، والحياة تتخلق من صراعاتها الداخلية. ليخلق الشاعر فكرة الخصب بعد الدمار، كإيحاء منه بأن التضحيات ليست عبثية وأن قصيدته لا تبحث عن الخلاص، بل تحرض على الوعي بهشاشته.
🌟 تلخيص
تكشف قصيدة "الناطِحون" عن تعقيد نفسي وفكري عميق، تنبع منه رؤية وجودية تلامس جوهر الإنسان المعاصر في ظل قهر جماعي، وأنظمة سلطوية خانقة. وليست هذه القصيدة فعل كتابة عابر أو تعبيرًا عن تجربة فردية معزولة فحسب، بل تمثل بانوراما شعورية وفكرية لأزمة وجودية ممتدة، تتراوح فيها النفس البشرية بين التمرد والانكسار، وبين الإدراك العميق للعبث ومقاومته.
و تُعد قصيدة "الناطِحون" نصًا نقديًا للواقع من داخل الشعر، لا يقدم إجابات بقدر ما يفضح الأسئلة المعلقة، ويعيدنا إلى جوهر المعاناة الإنسانية تلك التي لا تتوقف عن الاصطدام بالجدران، لا لتكسرها بالضرورة، بل لتؤكد استمرارالحياة في وجه الاستلاب، وأن هذه الوقفة الموجزة مع "الناطِحون" قد كشفت لنا ان التجارب مهما صغرت او كبرت هي السلم الى التطوير حتى وان كابدنا المشقات وواجهنا المصاعب والعثرات ، وكيف يجب على الانسان ان لايكتفي بوجود قرونا وجباه وحائط مسطح ليدفع تمنا باهضا لايتجاوز مواصلة "النطح" كي يخرج من معاناته انما عليه ان يتوقف بعد ان يعي الدرس العملي العميق لينتقل الى درس جديد اشد عمقا وفلسفة جديدة يولد نورها ويسطع ليعلن تخلي "الناطِحون" عن أوهام ومعتقدات عتيقة اقلها نطح الحائط واشدها نطح العدم واللاجدوى.
قصيدة "الناطحون" ليست فقط هجاء سياسيًا ، بل صرخة وجودية في وجه الجماعة المغيبة، والعقل الجمعي الذي يكرر أخطاءه برضا وقبول. إنها قصيدة تستمد قوتهاا من سُخريتها المرة، وفضحها لتواطؤ الجماعة مع السلطة، وفشلهما المشترك في صناعة التاريخ. إنها رؤية شعرية للإنسان الذي لا يكف عن الاصطدام، لا لأنه يجهل مآل المعركة، بل لأنه يرى في الاصطدام نفسه معنى للحياة. إنها قصيدة ما بعد وطنية، وما بعد جماعية، وما بعد بطولية، تقف ضد كل سردية كبرى، لتقول لنا: "لا شيء هنا يستحق التمجيد، فالكل نَطح والكل صريع....!!!!.
🔍 كلمات مفتاحية
رامز النويصري، الناطحون، تحليل قصيدة، نقد أدبي، شعر عربي حديث، هوية جماعية، تمرد، صورة شعرية، إيقاع شعري، سياق ثقافي
نرحب بتعليقاتكم