📁 آخر الأخبار

قراءة تحليلية لقصيدة (حرب من كانت؟!)... للشاعرة سوزان بن نصر

هنا قراءة تحليلية لقصيدة "حرب من كانت؟"، التي لم تكتبها الشاعرة الليبية سوزان نصر عن الحرب الليبية لليبية، كحدث مرّ وانتهى،  بل نبشتها بمهارة كجرح لا يندمل، وكغصة لن تُغتفر.
 "حرب من كانت؟!" ليست مجرد قصيدة عابرة عن الحرب، لكنها عملاً أبداعيا تتقاطع فيها الذات مع الوطن، والإيقاع مع النكبة، والذاكرة مع شبح النسيان، حتى تحول نصها  لمرآةً تعكس عمق الخسارة وفداحة المصاب، وتستعيد وجع الحرب ومرارة الذكرى.، وجروح الوطن والنفس معًا.
هنا قراءة تحليلية لكلمات تسير في القصيدة على خيط مشدود بين الحنين والالم، والتأوه والندم ، والبكاء على اطلال وطن قسمته الحرب الى شظايا من خراب، وتركت على أنقاضه سؤالاً معلقا يقول: "حرب من كانت؟"سؤال لا ينتظر إجابات  بقدر ما يكشف عن قصيدة ليست للقراءة فقط، بل للمساءلة والانكشاف.!!!
------------------------------------------------------------------------------------
  
حرب من كانت؟! للشاعرة سوزان عاشور
الشاعرة : سوزان عاشور

📅 الثلاثاء 6 ابريل 2025م
✍️ بقلم : سالم أبوظهير

الشاعرة

     سوزان بن نصر كاتبة وشاعرة وصحفية ليبية، تحمل شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة طرابلس. تُعد أول صحفية ليبية متخصصة في الشؤون الاقتصادية منذ أوائل التسعينيات، من خلال عملها في القسم الاقتصادي بصحيفة الشمس بالمؤسسة العامة للصحافة، وهذا رسّخ حضورها في المشهد الإعلامي الليبي بوصفها رائدة في الصحافة المتخصصة.

    برزت سوزان كصوت نسوي جادّ في المشهد الإعلامي والثقافي الليبي، وتُعرف بأسلوبها التأملي العميق الذي يجمع بين اللغة الشاعرية والطرح الفكري المؤثر. وهي عضو نشط في نقابة الصحفيين بطرابلس، وواحدة من أبرز المدافعات عن المهنية وحقوق العاملين في الحقل الإعلامي.

    تكتب سوزان بن نصر الشعر، وتمارس الكتابة بوصفها موقفًا أخلاقيًا وأداة مقاومة فكرية، تتناول في نتاجها الشعري والأدبي  قضايا الإنسان والهوية والمرأة، وتتقاطع نصوصها مع هموم وطن مأزوم مليء بالتشظيات، تطمح دائما أن تراه كما تحب. 


القصيدة

 حرب من كانت؟! 

للشاعرة سوزان بن نصر

مساءات تزحف رثاث .
 مساءات تسدل بأثقالها .
 وأخرى
تجرجر سلسلة خيباتها
صوب صباحاتنا ،
فتصيبها بالغصة قبل انبلاجها . 
وكأنني
بالوقت لم يستفق بعد. مرتاب – دقاته –
لا تحصي الشهقات ،
وعقاربه لا مدافن لها !! 
مربكة شهوة هذا المساء ، وحادة .. 
كنصل سكين شُحذ لتوه !!
 ضجيج صمته لا يلجمه ،
سوي
بعض من نغم قديم مهاجر
يغرقك 
حتى تنضح
 مفاتيحه من مسام جلدك ..
 فتعريك .. لتنقيك ، 
وتطهرك
 من رجس الشياطين
ولتتوحد وإياك في رداء للملائكة ! 
نغم مجروح .. 
يفضح عليّ سخاء
ارتباطك المهووس مع نسور سلمه ،
 وأيضاً "فصل ذاكرة" .
 هكذا ..
دونما صافرة ،
 وبلا 
– تذاكر – حجز مسبق.
 هو
 ( نغم ملتاع) ..
لم يكن منّي ..
ولكنه 
على نزق
 صار أنا ..!
 ساقني ذات سفر
 إلى مراقص مجنونة ،
ظننتها ( أولى ) في عمر تمردي ،
وتوهمته أخير 
في ذيل أوجاعي وأسماعي ! 
وإذا به الليلة..
ذات النغم 
يكتسح يابسَتي بطوفان حبر ،
وفوائض دمع ،
ويوقظ داخلي
.. أشباح الأوقات الملكومة بالنكبات
.. وأتراح
 أجسادنا الملقاة ،
في مكبات القمامة 
والذباب !!
 فائض من وجع ..
نزاحم به أيامنا الحبلى، بالأوهام المتراصة
 على رصيف انتظارنا 
.. يستدرجنا ساعة بعد أخرى ،
جثة وراء ثانية ،
وشهيد فوق شهيد ..
لكهف من الظلمات والصقيع ،
ومدائن من القبور والطيور الموحشة .
 نتسابق بخطواتنا نحوها 
دونما التفاتة ،لما حولها ،
وما فوقها ،
وما يمكنها أن تجرجره تحتها .
 وكأننا نملك أوطاناً ثانية ،
وأرواحاً أخرى غير التي نخسر .. !!
 يقول غسان كنفاني في كتابه "أين كنت في الحرب" : 
"لم يعلمني وطني إلا الخوف .
 الخوف منه
 والخوف عليه .
 أخاف كلما جنحت طائفة كبرى إلى خيار
 لا تستطيع المعادلة الهشة احتماله ،
وأخاف 
من القدرة على تكرار الرهانات الباهظة ،
وعدم الاتعاظ من حمامات الدم ،
وقدرة اللبنانيين على المغامرة بوطنهم 
كأنهم يمتلكون وطناً آخر ! 
أخاف 
من موهبة استجلاب التدخلات
ومحاولة الاستقواء بها ثم التحول بيادق في ألعابها .
 ونحن نقول ..
 لو كان ثمننا ( للحرية !!)
فلن يكون 
ما دفعناه أقل قيمة منها !
ولكنني 
أخشى أن يكون ثمن السراب ميلاد حديث ،
وذاكرة مهجنة ،
وتفاصيل مبتورة ،
و(قوافل من الأشباح والأرواح) ..
وحينها
لن يكون 
ما فقدناه
 أهون علينا 
من فقد الزير لأخيه كليب !
" ( لنلامس أجنحة النوتات .. فهذه ليست حربنا ) .

القراءة

🌅 مقدمة تمهيدية
  

    في عودة مؤثرة إلى ماضٍ لم يغب أثره، تعيد الشاعرة سوزان بن نصر نشر قصيدة "حرب من كانت؟!"، التي كانت قد نشرتها في عام 2016م، لا لتروّج لذكرىات مضت، بل لتنبش من تحت ركام الصمت صرخة كتبتها، وأزقة مدينتها طرابلس كانت آنذاك تحت القصف تغرق في دوامة الفوضى والدمار، وتتنفس الخوف، وتغيب عنها ملامح الاستقرار. تعيد نشر هذه القصيدة، لا لتستسلم لذكريات تلك الأيام القاسية، بل لتوثّق وجع المرحلة، وتستعيد نبض صوتها في زمن كانت فيه الكلمة مقاومة. تعيدها  وهي تقول : " كان يمكن لهذا النص أن يظل حزيناً فقط ، أن يبكي وحده في الزاوية ويكتفي. لكنه يعود هذا المساء لا ليضيف ، بل ليشهد على أن بعض الوجع لا سياق له ."

    الشاعرة في "حرب من كانت؟!" لم تكتف بتوثيق الألم، بل تجاوزته فصار مساءلة وجودية جارحة، تستحضر فيها جراح الوطن والنفس معًا. ففي كل بيت من أبيات القصيدة، يعلو صوت مجروح لا يبحث عن إجابة، بل يصر على طرح أسئلة : من خسر؟ من ربح؟ من مات؟ ومن عاش ليروي الحكاية..؟

  "حرب من كانت؟!" ليست مجرد قصيدة عابرة عن الحرب، لكنها عملاً أبداعيا تتقاطع فيها الذات مع الوطن، والإيقاع مع النكبة، والذاكرة مع شبح النسيان، حتى تحول نصها  لمرآةً تعكس عمق الخسارة وفداحة المصاب، وتستعيد وجع الحرب ومرارة الذكرى.، وجروح الوطن والنفس معًا. قصيدة كتبتها الشاعرة بدمها لا بحبرها وطرحت أسئلةً وجودية عميقة حول الهوية والخسارة والحرية، فتماهت كلماتها مع الألم والرموز والموسيقى الداخلية، لتنتج نصاً أدبياً مؤثراً، وعملاً شعرياً عميقاً ، رسم مشهدًا دراميًا هزّ وجدان القارئ من الأعماق. نص نابع من تجربة الشاعرة المريرة مع وطنها، حولته لصرخة إنسانية خرجت من رحم تجربتها الشخصية . صرخة روح عالقة بين الوطن واللاوطن، بين الماضي واللازمن. صرخة لا تبحث عن إجابات، بل تطرح أسئلة بصوت عال مجروح. تتقاطع فيه الذات مع الوطن، والنغم مع النكبة، والذاكرة مع النسيان. 

    قصيدة "حرب من كانت؟!"، لا تُقرأ كأي نص، بل تجربة تُعاش فينا ومعنا، وتنفذ إلى داخلنا، لتضعنا وجهًا لوجه، أمام معنى أن تكون إنسانًا في وطنٍ ممزق، وكلماتها ليست نواحًا عابرًا، بل دعوة للتأمل، وليست حزنًا مجرّدًا؛ بل تأملٌ عميق ومواجهة فكرية مع الخراب، وكأن سوزان بن نصر تُعلن عبر هذه القصيدة، أن الشعر وحده قادر على حمل أسئلتنا الثقيلة حين تخوننا لغتنا اليومية. قتحولت القصيدة الى لوحة درامية معبرة، تستفز المتلقي من الداخل وتدعوه بإلحاح لتفكيك النص وتحليله، بحثًا عن طبقاته الجمالية والدلالية، ومحاولة لسبر أغوار سؤال "حرب من كانت؟!". سؤال لا يطلب إجابة  فحسب ، بقدر ما يفتح جراحًا لا تزال تنزف ويوثق لشهادةٌ مؤلمة عنوانها أن الحرب لا تنتهي بانتهاء القصف..!!!

🌅 العنوان سؤال إشكالي مفتوح

بشكل عام يشكّل العنوان مدخلًا أساسيًا لفهم النص الشعري، إذ لا يقتصر دوره على تحديد الموضوع، بل يتعداه ليكون امتدادًا للرؤية الشعرية، وعلامة مشحونة بالرمز والإيحاء. في قصيدة "حرب من كانت؟!"  يبرز العنوان على شكل استنكارٌ مركّب، ونداءٌ مأساوي و سؤالًا وجوديًا وسياسيًا في نفس الوقت. عنوان جعل القصيدة بأكملها تبدو كامتداد لهذا التساؤل المفتوح، وتحاول أن تجيب، لكنها في النهاية تُبقي الجرح مفتوحًا، بلا يقين ولا خلاص. وهذا يحفّز القارئ على التأمل ويعزز الطابع الفلسفي في مفاهيم الانتماء، والهوية، والحرب، ضمن سياق ليبي مثقل بالتجارب المؤلمة.

 العنوان يحمل بعدًا استفهاميًا يجذب القارئ ويثير فضوله، ويتسم بالغموض والتشويق بما يكفي، لجعل المتلقي يقرر قراءة النص.ي، ورغم ان العنوان يتكون من ثلاث مفردات فقط ، لكنه شديد الكثافة. إنّه يخلق مفارقة لغوية وسياسية، لأن الحروب غالبًا ما تنسب إلى طرف ما، دولة ما، أو حركة ما. أمّا هنا، فالسؤال يُطرَح بعد أن انتهى كل شيء، بعد أن مرّت المآسي، وبعد أن انطفأت النيران، مما يُضفي عليه طابعًا عبثيًا ـ من جهة ـ وتأمليًا ـ من جهة أخرى.

وظاهريًا تبدو المفردات الثلاثة في العنوان  مفردات بسيطة ، لكنها واقعياً تنطوي على عمق لغوي وتأويلي كبير: فمفردة "حرب": جاءت بصيغة نكرة، وهذا منح المفردة  طابعًا شموليًا؛ حرب لا اسم لها ولا تاريخ محدد  كما لا تشير إلى حرب بعينها، بل تنفتح على كل الحروب، سواء كانت سياسية، نفسية، داخلية أو مجتمعية. وهذه النكرة منحت العنوان بعدًا رمزيًا واسعًا، يعبر عن التجربة الإنسانية في مواجهة العنف بجميع أشكاله وفي أي مكان . 

أما أداة الإستفهام "من":  فهي محمّلة بالغموض والتساؤل، لا تسأل فقط عن الفاعل، بل تثير شكوكًا حول المسؤولية.، وهي هنا  ليست فقط أداة استفهام، بل هي اتهام، وشك، وإدانة ضمنية، واحتجاج على عبثية الحرب كلها. والسؤال هنا لا يطلب جوابًا مباشرًا، بل يفتح المجال أمام مزيداً من الأسئلة على نحو : هل كانت الحرب باسمنا؟ أم على حسابنا؟ ولماذا نحن الخاسرون دومًا؟.  من أشعل الحرب؟ من موّلها؟ من صمت عنها؟ من صدّقها؟ ومن مات من أجل لا شيء؟...وكل الأسئلة السابقة مستبطنة في عنوان السؤال المقتضب: "حرب من كانت؟"

أما استخدام الفعل الماضي "كانت؟!": يوحي بأن الحرب انتهت، بينما استخدام علامتي الاستفهام والتعجب معًا () يشير إلى استمرار آثارها، كأنما الماضي ما زال حاضرًا، يعيد تشكيل الواقع ويثقل الذاكرة الجمعية. وهذه العلامة ()  لها دلالات نفسية قوية. فالجمع بين علامة الاستفهام وعلامة التعجب يعكس حالة من الذهول المختلط بالسخط. والشاعرة هنا لم تكتف بطرح السؤال، بل نقلته إلى مستوى الصرخة، والاتهام، والاحتجاج.وهذا تحديداً ما جعل عنوان القصيدة يتجاوز وظيفته التعريفية ليتحوّل إلى بوابة إحساس شاملة، تمهّد لكل الألم والتمزق الذي سيأتي لاحقًا في متن القصيدة. وكأنّ الشاعرة تلمح إلى أن الحروب التي نعيشها، أو نُساق إليها، لم تكن "حروبنا" أصلًا، بل تم توريطنا فيها.

أسلوبياًيدخل هذا العنوان ضمن فئة العناوين ذات البنية الاستفهامية ـ الانفعالية، وفي هذه القصيدة يحمل ابعاداً متعددة ، نجد البعد الاستنكاري يأتي من خلال جمع الشاعرة في عنوانها بين الاستفهام والتعجب وهذا منح الجملة طابعًا احتجاجيًا، لتتحول من سؤال تقليدي إلى صرخة شعرية غاضبة، تندّد بعبثية الحرب وتدين صمت العالم تجاه ما يحدث في البلاد. الشاعرة ايضا تجاوزت التسمية التقليدية للقصيدة وقامت بتفكيك العنوان وفتحت المجال امام المتلقي ليعيد طرح مزيد من الاسئلة المشروعة  ربما ابرزها من هو العدو؟ من المنتصر؟ ومن الخاسر الحقيقي؟ كما مهدت للمتلقي ان يشاركها النص ويتجاوز المألوف بحثه على إعادة التفكير في السرديات السائدة. من جانب البعد الوجودي فعنوان القصيدة لا يخاطب العقل فقط، بل يستدعي الروح والوجدان. إنه سؤال عن الإنسان ومعنى وجوده وسط الفوضى، عن موقعه من الصراع، وعلاقته بالذنب والتواطؤ، والنجاة إن وُجدت.

وعطفا على ماسبق عنوان "حرب من كانت؟!"  ليس عنوانًا وظيفيًا، بل قصيدة مكثفة بحد ذاتها، وسؤال مفتوح على الخوف، والهزيمة،  والخذلان. وهو مفتاح وجوديا  لفهم النص كاملاً، بوصفه رحلة في تبعات الحرب على الإنسان والذات واللغة. ولعل أقسى ما يوحي به العنوان، هو أن الحرب لم تكن "لنا"، وربما لم تكن "علينا"، بل "منّا".يمكن القول إن "حرب من كانت؟!" ليس مجرد عنوان، بل هو نص شعري مكثف قائم بذاته. هو سؤال وجودي وسياسي وثقافي، يحمل في طيّاته همًّا إنسانيًا عميقًا، ويعكس صورة الواقع العربي بأوجاعه فيجمع بين الغضب والتأمل، ويكشف عن حساسية لغوية وفكرية عالية لدى الشاعرة سوزان بن نصر.

🌅 صور شعرية ودلالات رمزية

    القصيدة  تنتمي إلى شعر ما بعد الحداثة، وكل شيء فيها خاضع للسؤال، مفرداتها تمتزج بين الهم الشخصي والسياسي العام ، وبين الحسي والمجرد. لغة القصيدة مكثفة، مشحونة، ومركبة، مفرداتها تختزن الألم والخوف والغضب، لكن دون مباشرة. فالشاعرة تكتب بلغة تخفي أكثر مما تُظهر، وتُوجع أكثر مما تصف. تستخدام التراكيب المركبة مثل "فائض من وجع"، و"أشباح الأوقات الملكومة بالنكبات"،  وهذا عكس قدرتها على توظيف اللغة لتنقل المعنى لا عبر دقته فحسب، بل عبر وقعه النفسي والوجداني.
واللغة في هذه القصيدة ايضا لغة شخصية تتحدث فيها الشاعرة عن "أناها" المكسورة المتألمة ، لكنها تقول الكثير عن "نحن" الجمعية. لتحمل همّ الفرد والجماعة، وتسرد بلسان حزين حال وطنٍ بأكمله، أو حتى أوطان عربية عدة في مرآة واحدة.
    ومن حيث الشكل فالقصيدة نثرية البنية ، لكن فيها إيقاع داخلي عميق واضح المعالم. هذا الإيقاع لا يأتي من قافية خارجية ، بل ينبض من داخل النص ذاته، ولا يظهر فقط عبرالمفردات فحسب، بل من خلال تنوع الضمائر، وتكرار الصور وتعاقب التوتر الانفعالي، وتناغم المشاعر ، ليصبح النثر نفسه لوحة موسيقية حيّة تعبر عن صدى الروح المضطرب. وتحمل بداخلها رنة موسيقية خاصة، فنجد عبارات مثل : "نغم مجروح"، و" نغم ملتاع " و "نغم قديم" و "طوفان حبر"، و"مكبات القمامة والذباب وهذه ليست مجرد تراكيب لغوية، بل هي خلايا صوتية مشبّعة بالإيحاء، والإيقاع .
كما تحفل هذه القصيدة بصور شعرية ودلالات رمزية ، توظفها الشاعرة لتقدم لنا صورة  حزينة مليئة بالرموز والأوجاع، والجراح التي لاتزال تنزف ، والحروب التي لم تنته فصولها بعد ، وربما لذلك تقرر سوزان أن تبدأ قصيدتها بصورٍة كئيبة، معبّرة عن حالة من الانتظار المر الطويل لإنبلاج الصباح فتبدأ: ب"مساءات تزحف رثاث.  مساءات تسدل بأثقالها.وتنتهي بـ"قوافل من الأشباح والأرواح". وتقدم هذه "المساءات تزحف  وتسدل وكأنها كائنات حية تتحرك وتُثقل الكاهل...!!
واستخدام كلمة "رثاث" يوحي بتدهور الحال، بينما استخدام "تسدل بأثقالها" يعكس حالة من اليأس والانغلاق. وبعدها بقليل تنقل الشاعرة للقاري صورة أخرى فيها طابعاً رمزيا قويا فتقول : "وكأنني بالوقت لم يستفق بعد. مرتاب – دقاته –" وهنا تشير الشاعرة الى ذهاب الوقت في غيبوبة، فلا يعي مايدور حوله من ويلات ،لتتوقفت معه الحياة و تتعطل بسبب الحرب. هذه الصورة ترمز إلى حالة اللاعودة، إلى زمن متجمد لا يتحرك إلا بخطوات مرتابة وخجولة.
ثم تمضي الشاعرة في فضح التباس الوقت، حين أضحى المساء زمناً للخيبات ،عوضاً أن يكون موعداً للراحة والتأمل فتقول بمرارة:  "مساءات تجرجر سلسلة خيباتها صوب صباحاتنا، فتصيبها بالغصة قبل انبلاجها.الماضي هنا يسحب ثقله إلى الحاضر، والمستقبل مهدد بالوأد قبل أن يولد. لا نجد هنا تطلعًا للأمل، بل " المساءات" تأتي مثقلة، منهكة، لا تحمل السكينة بل الرثاثة، وتجر خلفها "سلسلة خيبات". 
وفي مواضع أخرى من القصيدة، وظفت الشاعرة تقنية المفارقة، فنجد  نوع من الانفصام بين الصمت والضجيج " ضجيج "، "صمته"، وبين الشر والنقاء "رجس الشياطين"، "رداء الملائكة".، "مساءات" و"صباحات"، وكأن الشاعرة تريد عبر هذه المفارقات تسليط الضوء على التناقض بين الواقع والوعي، وبين الخسارة والإصرارعلى الإنكار.
وفي فقرة ربما تمثل مرآة القصيدة وجوهرها، بل ومحورها الرئيسي تتضح في إقحام الشاعر غسان كنفاني في القصيدة والأستشهاد به ، لم يكن مجرد استشهاد بل تأسيس لرؤية سياسية وفكرية. واستحضار لم يأت عبثاً بل لتؤكد عبره سوزان على ان الحرب في بلادها حدث تاريخي مؤلم لاتختلف أهوالها ومأسيها عن أي حرب قذرة في أي مكان وأي زمان ، وحرب لم تكن فقط قنابل ودخان، بل منظومة خوف مستمر تنتج ذاكرة مشوهة وجراحاً لا تُشفى:"لم يعلمني وطني إلا الخوف. الخوف منه والخوف عليه."
وتستشهد الشاعرة بكنفاني من شدة خوفها لتؤكد قائلة "أخاف من موهبة استجلاب التدخلات / ومحاولة الاستقواء بها ثم التحول بيادق في ألعابها" 
 هذا التناص مع غسان كنفاني يأتي كامتداد عضوي للنص برمته ، لا كحشو ثقافي، بل هو خلاصة ما حاولت الشاعرة بناءه تدريجيًا: الخوف من الوطن، والخوف عليه". وبينهما، نعيش مأساة مستمرة من التكرار والخذلان، وما حاولت قوله من ان الحرب في بلادها هي نتاج سياسات وصراعات لاعلاقة لشعبها بها ".. فهذه ليست حربنا"  وبهذه الإشارات وضعت الشاعرة قصيدتها في إطار سياسي واضح، إتنتقدت من خلاله هموم بلادها التي يعبث الاخرون بإستقرارها ومستقبلها.ثم تصبح القصيدة أكثر وضوحاً في بعدها السياسي حين تربط  الشاعرة الخراب الداخلي بالواقع الجماعي، في صورة مؤلمة فتقول : وأتراح أجسادنا الملقاة، في مكبات القمامة والذباب" وتتحول القصيدة الى صرخة وطنية للشاعرة ضد العبث السياسي الذي يستهين بحيوات الناس فتتسأل بصوت مكلوم صادم : "وكأننا نملك أوطاناً ثانية،وأرواحاً أخرى غير التي نخسر .. !!"

🌅 وختاماً

تختتم سوزان  قصيدتها مستندة على ثراث البسوس واربعين عاماً من التطاحن بين أبناء العمومة من أجل ناقة عرجاء ، وهذا الاستناد لايأتي أستعراضا بل صرخة أخيره تطلقها سوزان في وجه العبث "حينها لن يكون ما فقدناه أهون علينا من فقد الزير لأخيه كليب!" وخوف من أ مصير الوطن لايزال معلقا على حافة استفهام من اساطير أيام زمان الغابرة الكالحة السواد : من يدفع الثمن إذًا؟ الزير أم كليب؟ القاتل أم المقتول؟ وهل حربنا هنا قدر أم خيار؟
وختاما قصيدة "حرب من كانت؟!" ليست مجرد نصاً شعرياً يحكي الحرب والخراب فحسب ، بل هي عمل فني واعٍ يوجه تساؤلاًت مؤلمة ملخصها : من يملك الحقيقة في زمن الحرب؟ ومن يتحمّل وزر الخسارة حين تتحوّل الأوطان إلى مقابر مفتوحة؟.عمل قامت فيه الشاعرة سوزان بن نصر بعفوية مطلقة  بكشف وجع الوطن ، وفضح صمت مواطنيه، وحاولت بإجتهاد أن تطهرنا من "رجس الشياطين" لنرتدي، ولو مجازاً، "رداء الملائكة"....!!!!!

كلمات مفتاحية
تحليل قصيدة حرب من كانت، سوزان بن نصر شعر، قصائد عربية حديثة، تحليل نقدي لقصيدة عربية، الشعر الرمزي العربي، نقد أدبي قصيدة حديثة، الشعر العربي المعاصر، تحليل الصور الشعرية، قصائد عن الحرب ، قصيدة عن الألم والهوية، الأدب العربي الحديث، الشعر النسوي العربي


صحيفة المنظار الليبية
صحيفة المنظار الليبية
تعليقات