المثقف النذل قصة قصيرة ساخرة تكشف كيف يتحول "المحلل السياسي" إلى بوقٍ للسلطة في بلاد يختلط فيها النفاق بالذكاء والانتهازية بالثقافة. حكاية ليبية جدًا عن المثقف النذل... تابع القصة
🗞️ صحيفة المنظار الليبية: موقع طيوب✍️ بقلم: سالم أبوظهير
📅 التحديث: الإربعاء 21 مايو 2025م
تنويه: لو صادف وشعرتَ، أن بعض الشخصيات أو الوقائع تشبه الواقع، فأن هذا ليس من باب المصادفة، بل هو تعمّد سافر، ومحسوب وضروري، لأن الضحك على العقول يجب أن يتم كشفه ولو بحكاية!!…
في بلادٍ تغرق في الفوضى، صارت صفة “المحلل السياسي” و” الخبير الإستراتيجي”، لا تحتاج لمؤهلات أوخبرة حقيقية، بل يكفي لسان يجيد الكذب، ووجه يتقن التلون مع تغير الظروف.. وكان محفوظ البروال أحد هؤلاء. فهو لم يكن كاتبًا أو أكاديميًا، لكنه كان بارعًا في تقمص دور المثقف. يمتلك موهبة فريدة في الظهور بمظهر العارف بكل شيء، دون أن يقول شيئًا محددًا. يقتحم أي نقاش ويلقي بكلماته الضخمة فارغة المعنى وكأن له من لقبه أصيل، ففي اللهجة الليبية، يُقال أحيانا عن الشخص المتقلّب، المتلوّن، الذي يروغ كما يروغ الثعلب بأنه ” بروال”. والبروال في هذه الحكاية شخص انتهازي، وسفساف، وقليل الأصل، ويملك مهارة منقطعة النظير في “تغيير المواقف والولاءات”.
بدأ رحلته على تطبيق “كلوب هاوس”، باسم مستعار، كان يثرثر أكثر مما يسمع، يقاطع أكثر مما يحاور، ويرمي بمصطلحات لا معنى لها. وفي زحمة الجدل لمع نجمه، ورنّ هاتفه ذات يوم:
– نبيك ضيف في برنامجي يا أستاذ محفوظ، مداخلة هاتفية بسيطة…
فأجابه بصوتٍ مفعم بالثقة:
- يشرفني جدًا… بكل سرور!
بعد تلك المداخلة القصيرة، صار محفوظ ضيفًا دائمًا على القنوات التي تتغذى على وهم التحليل السياسي. وجد مكانه أخيرًا: يجلس أمام الكاميرا، عابس الوجه، متجهم الملامح، ويلقي بكلمات كبيرة كأنها نبوءات:
“نحن أمام استعصاء هيكلي عميق”،
“أنا لا أستنتج، أنا أشتغل على ملفات”،
“المعلومة عندي، قولا واحدًا”،
“حسب قراءتي للمشهد الإقليمي…”
وفي ليلة ليلاء كانت الريح تحطب للبروال دون علمه، ففي تلك الليلة جلس الشيخ بو لحية، الذي يشاع أنه كان الحاكم الفعلي للبلاد، يتنقل بين القنوات. فسمع مداخلة للبروال، لم يفهم منها شيئًا، لكنه سأل أحد معاونيه بفضول:
– هذا منو؟ وشن يقول؟
-هذا يا شيخ، محلل استراتيجي مشهور أسمه محفوظ البروال.
– كويس… شوفوه وشوفو موضوعه.
قالها الشيخ، وأغلق التلفاز.
من يومها، تغير كل شيء في حياة البروال أصبح بوقًا رسميًا للشيخ بو لحية. تغير اسمه على الشاشات إلى: “المحلل السياسي الأستاذ خليل البروال”. وغرق في تمجيد الشيخ بعبارات منمقة منتقاة:
“الشيخ بو لحية هو الضمانة الوحيدة للوحدة الوطنية”،
“هو عقل الدولة، وملهمها”،
“بو لحية حالة نادرة، لا تُفهم إلا بعمق استراتيجي.”
كان محفوظ يقول ما يُطلب منه وأكثر. لم يكن يمجّد فقط، بل يبني هالة أسطورية حول الشيخ. وفي المقابل، امتلأت جيوبه بالمال، وغصت حياته بالرفاهية سيارة وشقة وسفريات حساب مصرفي تتصاعد فيه الأرقام للأعلى بعد كل مداخلة تعجب الشيخ بولحية.
لكن، وكما يقال… “دوام الحال من المحال”. ففي ليلة سوداء على راس البروال، مات الشيخ بو لحية في عملية غامضة، وخلفه مباشرة القائد المحمودي… وما هي إلا ساعات، حتى بدأ محفوظ في حملة تنظيف شامل: حذف منشوراته، مسح صوره، وأعاد ترتيب صفحاته وكأن الشيخ بولحية لم يكن جزءاً من حياته، وولي نعمته، فلم ينشر خبر موته، لم يقدم تعزية. لم يترحم عليه. لم يذكره بخير ولا بشر.
وفي نفس الليلة، ظهر البروال في قناة جديدة، ينفض الغبار عن صوته المتلوّن:
“نحن أمام لحظة إعادة هيكلة الشرعية…”
“القائد المحمودي رجل المرحلة… القائد الذي انتظرناه طويلاً.”
نعم … انقلب محفوظ على عقبيه، كما لو كان ممثلًا في مسرحية تغيّرت حبكتها فجأة، وتدريجيا توالت مداخلاته في القنوات الفضائية، وذهب أبعد من ذلك:
“كنا في حالة قسر سياسي، اختطفتها عقلية بو لحية”،
“المحمودي قائد يحمل مشروع دولة حقيقي”،
“المحمودي يحترم الدستور… ويحترم نفسه.”
وهكذا، عاد نجم البروال إلى السطوع. لكن ما يعلو بسرعة… يسقط أسرع.
فقد صدر تعميم عن النائب العام بإيقاف مجموعة من المحللين “الوهميين”. ومن بينهم: محفوظ مفتاح البروال، المتهم بادعاء الصفة الصحفية، والتحريض، وتضليل الرأي العام.
بدأت القنوات تسحب دعواتها. تبرأت منه الصفحات التي كانت تتسابق على نشر كلماته. وأدرجته وحدة مكافحة خطاب الكراهية التابعة للحكومة في قوائمها السوداء. ومع كل هذا، ظل البروال هادئًا، مطمئنًا:
– القائد المحمودي مش حيخليني.
لكن الريح لم تكن على هواه هذه المرة، تسجيل صوتي مسرّب انتشر على الانترنت كالنار في الهشيم فيه يقول البروال بصوت مرتخ، وكأنه سكران:
“ضحكت على بو لحية، وتوا نضحك على المحمودي”
“هما نسخة من بعض، بس الأول كان يدفع أكثر.”
“المحمودي أشرّ، وأغبى.”
وفي الليلة ذاتها… اختفى البروال …!!!
لا أحد يعرف: هل اعتقله النائب العام؟ أم اختُطفه رجال المحمودي؟
لا شيء مؤكد، لكن المؤكد الوحيد أن محفوظ البروال، “المثقف” بحسب البعض، “النذل” باتفاق الجميع، الذي امتلك موهبة استثنائية في تبديل الأقنعة، أختفى الان.
ورغم اختفائه، لم تُغلق الحكاية. لأن بعض الوجوه تعود، حين تستدعيها الحاجة.
فالكابوس، يا سادة… لا يموت.
بل يأخذ استراحة، ثم يعود… بشكل جديد.
وفي بلاد تعمها الفوضى ما أكثر الأقنعة، وما أقل الوجوه الحقيقية …!!!!!
كلمات مفتاحية
نرحب بتعليقاتكم