( لما لا تنشب الحرب …؟ ) نص تأملي عميق تكشف فيه الكاتبة إيناس احميدة عن واقع مجتمعي مرير، حيث تتخفى الحرب الحقيقية في ثياب السلام المزيف، نص يستعرض ببساطة متناهية أربعة عشر وجهاً للصراع الصامت الذي يقتل الروح قبل الجسد. نص يأخد القاري في رحلة مؤلمة عبر تناقضات صارخة في مجتمع تتآكل فيه القيم والعدالة والكرامة، حيث يتحول الفساد إلى نظام والظلم إلى قانون والموت إلى رقم في سجل النسيان....صرخة وجدانية تكشف كيف تتسلل الحرب إلى تفاصيل حياتنا اليومية دون دوي مدافع، لتسلب الحقوق وتقسم المجتمع إلى سادة وعبيد، وتحول الإنسان إلى متسول في وطنه. نص جدير بالقراءة المتأنية واستخلاص العبر..!!!
![]() |
الكاتبة الصحفية : ايناس احميدة |
📅الإثنين02 يونيو 2025م
✍️بقلم : ايناس احميدة
صرخة وطن: عندما تتخفى الحرب في هيئة دولة
❝ تأملات في واقع مرير ❞
لما لا تنشب الحرب...؟ سؤال يتردد صداه في أروقة الوجدان، وتجيب عنه مشاهد يومية من واقع مرير نعيشه بصمت وألم. هل نحتاج إلى دوي المدافع لنعلن أن الحرب قد اشتعلت، أم أن الحرب الحقيقية هي تلك التي تتسلل إلى حياتنا اليومية متخفية في ثياب السلام المزيف؟
في بلدٍ نقف فيه متضرعين إلى الله، لا لرفع البلاء، بل لتتساهل لجان الامتحانات وينجح أبناؤنا بالغش. هنا تبدأ الحرب الأولى، حرب على القيم والأخلاق، حرب تقتل فينا روح العلم والمعرفة، وتزرع بذور الفساد في نفوس الأجيال القادمة.
في بلدٍ تتحول فيه طبيبة أثرت على حساب عيوننا إلى "قديسة"، تُمجد وتُقدس، بينما تذرف العيون دموعاً من الألم والخذلان. هنا تتجلى الحرب الثانية، حرب على الحقيقة، حرب تقلب الموازين وتجعل من الجلاد بطلاً والضحية متهماً.
في بلدٍ يُزف فيه ابن المسؤول إلى حفلة تخرجه برتلٍ من السيارات الفارهة، تشق طريقها بين أزقة الفقر والحرمان، بينما يقف الأستاذ الجامعي حائراً لا يجد أجرة حافلة توصله إلى مدرجٍ بارد يلقي فيه علمه على طلاب يحلمون بمستقبل مشرق في وطن مظلم. هنا تشتعل الحرب الثالثة، حرب الطبقية والتمييز، حرب تقسم المجتمع إلى سادة وعبيد.
في بلدٍ قُطعت فيه الغابات وتحولت إلى مفاحم، وعصي مكانس تجمع الأتربة من حواف الطريق بأيدي مهاجرين صاروا عبيداً بأجرٍ يومي. هنا تندلع الحرب الرابعة، حرب على الطبيعة والبيئة، حرب تدمر مستقبل الأرض وتسلب حق الأجيال القادمة في هواء نقي وماء عذب.
في بلدٍ تعمل فيه أعواماً بلا رقمٍ مالي، بلا اعتراف، بلا مقابل، تبذل عرق جبينك وزهرة شبابك في خدمة وطن لا يعترف بك، في حين يتقاضى آخر راتبه المحلي والدولاري وهو نائم، لا يشغله إلا كمادة لعينه المنتفخة من فرط الترف والبذخ. هنا تستعر الحرب الخامسة، حرب على العدالة والمساواة، حرب تسحق كرامة الإنسان وتجعل من العمل الشريف جريمة لا تغتفر.
في بلدٍ تُحرم فيه من حقوقك لأن موظفاً تعمد دفن ملفك الإداري الحافل بالإنجاز على مدى ثلاثين عاماً في درجٍ مظلم، وقرر – بلا حياء – أنه أحق منك ومن غيرك بأموال التسويات، وأمعن في إذلالك على أبواب المكاتب، تتسول الجواب وتتلقى الصمت. هنا تتفجر الحرب السادسة، حرب على الكرامة والحقوق، حرب تجعل من الإنسان متسولاً في وطنه.
في بلدٍ تُطبع فيه العملة كلما "لزم ضخها"، ثم تُرفع في صناديق على "بَراويط"، وتُسلَّم لتجّارٍ وفُجّارٍ صنعوا لها خزائن تحت الأرض، أفرغوا البنوك وحوّلوها إلى مراكز معونةٍ نقف أمامها كاليتامى في طابور الحساء، نستجدي معاشاً صار هو دنيانا. هنا تندلع الحرب السابعة، حرب على الاقتصاد والمعيشة، حرب تسرق لقمة العيش من أفواه الجياع.
في بلدٍ تُكتب فيه البيانات وتُدقّق بالذكاء الاصطناعي، ثم تُتلى مثقلةً بالأخطاء والفضائح، ولا يُفهم منها سوى النوايا السيئة. هنا تشتعل الحرب الثامنة، حرب على العقل والمنطق، حرب تستخف بذكاء الناس وتتلاعب بمصائرهم.
في بلدٍ يُبنى فيه سجنٌ أو مقرٌّ للتعذيب كلما اتسع نفوذ الآمر، ولا توضع فيه حتى حجرةٌ لمدرسةٍ أو مأوى لضعيف. هنا تستعر الحرب التاسعة، حرب على التعليم والتنمية، حرب تقتل الأمل في غدٍ أفضل.
في بلدٍ يُحاكَم فيه صاحب الجنحة، ويُسلَّم لحراسٍ تلطّخت أيديهم بالجنايات. هنا تندلع الحرب العاشرة، حرب على العدالة والقانون، حرب تجعل من الضحية مجرماً والمجرم قاضياً.
في بلدٍ لم يعد موتك فيه مع العشرة كرامة، ولا حتى ذكرى، حيث تمسي ضابطاً برتبة في جهاز الأمن وتصبح رقماً في الثلاجة، مجرّد فطيس. هنا تتفجر الحرب الحادية عشرة، حرب على قيمة الإنسان وكرامته، حرب تجعل من الموت مجرد رقم في سجل النسيان.
في بلدٍ يُصرّ قادته "على العناد يموت الشعب"، ننام فيه على مشاهد البؤس، لنفيق على لطم الفجيعة. هنا تشتعل الحرب الثانية عشرة، حرب على الحياة نفسها، حرب تجعل من الموت خلاصاً والحياة عذاباً.
بلدٌ تصادف فيه جثةً أو رصاصةً كل يوم، ولا ترى فيه وجهَ أخيك. هنا تندلع الحرب الثالثة عشرة، حرب على الأمان والاستقرار، حرب تجعل من الخوف رفيقاً والموت جاراً.
بلدٌ تبيع فيه الأمّ قوت أطفالها لتتزيّن بثمنه، علّ غريباً يلتفت وقريباً يحنّ. هنا تستعر الحرب الرابعة عشرة، حرب على الأخلاق والقيم، حرب تدمر أسس المجتمع وتقوض أركانه.
أما نشبت فيه منذ زمن؟... لكنها فقط اختارت أن تتخفّى... في هيئة دولة حرة. هذه هي الحقيقة المرة، الحرب قائمة ومستعرة، لكنها حرب صامتة، حرب بلا دوي مدافع أو قصف طائرات، حرب تقتل الروح قبل الجسد، وتسلب الكرامة قبل الحياة.
🔑 كلمات مفتاحية:
صرخة وطن، ايناس احميدة،الحرب الصامتة، نقد اجتماعي، الفساد المؤسسي، العدالة الاجتماعية، الطبقية والتمييز، أزمة القيم، الكرامة الإنسانية
نرحب بتعليقاتكم