![]() |
الشاعرة خلود الفلاح |
✍️ قراءة وتحليل : سالم أبوظهير
الشاعرة
الشاعرة والصحفية خلود خميس الفلاح، لها بصمة واضحة ومميزة في الوسط الثقافي الليبي ، تتناول في شعرها الحب والحرب والفقد بأسلوب بسيط وحميمي ومكثف. صدر لها عدة دواوين شعرية منها "بهجات مارقة"، و" ينتظرونك" و"نساء"، كما تم ترجمة هذه القصيدة “الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة” إلى اللغة الألمانية ضمن كتاب “جناحا قلبي المثقل.”وبعض أعمالها الشعرية ترجمت للفرنسية،وكانت إحدى قصائدها ضمن مشروع "100 شاعرة من العالم العربي"وهو ما يعكس أهمية تجربتها على المستوى الإقليمي وما يعزز ذلك مشاركتها في "ملتقى الشعر العربي الحديث"، التي قدمت فيه نصوصاً تحمل رؤيتها الإنسانية العميقة. وتفرض خلود الفلاح نفسها اليوم كواحدة من أبرز الأصوات النسائية في الشعر العربي الحديث، لما تحمله من تجربة غنية بالمشاعر والعاطفة والوعي المجتمعي.
على الصعيد الصحفي تولت الشاعرة ادارة مواقع مهمة في مؤسسة الصحافة، منها إدارتها لمكتب مجلة "الأمل" في بنغازي، ومراسلة لمجلة "الإذاعة"، ومحررة ثقافية في جريدة “العرب اللندنية ، وأسست مجلة "الرواية"، كما نظمت خلود "ملتقى المبدعات العربيات" الذي أنعقد في بنغازي عام 2012م، ورغم ظروف الحرب في تلك القترة، فقد نجح الملتقى ، وكان خطوة لإبراز دور المرأة الليبية في الحياة الثقافية ، لتعكس صورة مشرقة عن المرأة الليبية والعربية بشكل عام.
القصيدة
الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة
القراءة
تنتمي قصيدة "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" إلى تيار الشعر الحديث أو ما يُعرف بالشعر النثري أو الشعر الحر، حيث يتميز النص بانفتاح البنية، وعدم الالتزام بالقوالب الكلاسيكية، واستخدام اللغة العامية أو شبه العامية، واعتماد الصورة الشعرية كوسيلة رئيسية للتعبير. ولقصيدة النثر شكلاً شعريًا حديثًا يتيح للشاعرة حرية التعبير بعيدًا عن قيود الوزن والقافية التقليدية، واعتمادها على الإيقاع الداخلي والصور المكثفة لخلق تأثيرات دلالية وجمالية عميقة. واعتمادها كذلك على الصورة الشعرية كوسيلة رئيسية للتعبير عن تأثير الحرب على الذات الإنسانية بشكل عام وعلى الأنثوية بشكل خاص وهذا الأسلوب "يمنح النص طابعاً شخصياً وعاطفياً، مما يسهل على القارئ أن يدخل عالم الشاعرة ويتفاعل مع مشاعرها" (الحسناوي، 2017).
ووفقا لحفيدة سليماني في مقالها "من الهامش إلى المتن: قصيدة النثر وتحولات الذات العربية" فأن "قصيدة النثر الحديثة تُعيد تموضع الذات في مركز التجربة الشعرية، لا بوصفها ضحية، بل كفاعل لغوي وجمالي".(Slimani.2024) . حيث تتجلى في هذه القصيدة بوضوح تقاطع التجربة الشخصية مع الذاكرة الجمعية في نصٍّ يتجاوز التوثيق المباشر إلى مساءلة الوجود ذاته. وحضور الذات الأنثوية في هذه القصيدة لم يأت بوصفه اعترافًا ذاتيًّا فحسب، بل كفعل مقاومة ناعم، يعيد للغة وظيفتها الإنسانية في مواجهة العنف. حيث نلمس في القصيدة رؤية أنثوية حسّاسة تستنطق التفاصيل اليومية وتحاور فقدان الطمأنينة. وهذا ما يتقاطع مع ما طرحته الباحثة فاطمة سليمان في بحثها المنشور في مجلة Journal of Postcolonial Writing ، الذي ناقشت فيه كيف أصبحت قصيدة النثر في الكتابة العربية المعاصرة أداةً تعبيرية للمرأة لتفكيك الخطابات السلطوية، واستعادة صوت الذات في ظل العنف والقمع. والذي خلصت فيه الى أن "هذا الشكل الشعري يتيح للشاعرة بناء عالم متعدد الأصوات، لا يقتصر على التعبير عن الألم، بل يوظف اللغة كفضاء للمقاومة والتحرر."(Suleman 2023)،
وقصيدة "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" رغم أنها تتسم ببنية شعرية متشظية، لكنها محكومة بإيقاع داخلي ينبع من التكرار والتوازي، وتزخر بنظام دلالي يُنتج المعنى من خلال التوتر بين العناصر. وهذا التوتر حضر بقوة في القصيدة، لا سيما في المفارقة بين "الحرب" و"البهجة"، حيث تُستدعى مفردات الطفولة والحب والذاكرة لتقابل مشاهد الدمار والخذلان. ولاتكتفي خلود الفلاح في هذه القصيدة بتوثّيق رصد تداعيات الحرب ومأسيها ، بل تمضي بحرفنة إلى أبعد من ذلك فتفككها وتعيد تركيبها وفق رؤية أنثوية حسّاسة تستنطق التفاصيل اليومية وتحاور فقدان الطمأنينة. ثم تُعيد تشكيلها عبر لغة مشحونة بالتكثيف والانزياح، وهذا - الى حد ما - ينسجم مع ما أشارت إليه الباحثة هدى فخر الدين في كتابها The Arabic Prose Poem: Poetic Theory and Practice بـ"الانفتاح الجمالي لقصيدة النثر" والذي خلصت فيه الى أن "النص يتحول إلى فضاء حرّ تتقاطع فيه الذات مع العالم دون وسائط شكلية تقليدية"من أن قصيدة النثر الحديثة تُعيد تموضع الذات في مركز التجربة الشعرية، لا بوصفها ضحية، بل كفاعل لغوي وجمالي".(Fakhreddine, 2021).
وضمن هذا الإطار النظري الموجز، واستعانة بالمنهج البنيوي ستبدأ القراءة بتحليل عنوان القصيدة ، مروراً بالثيمات المركزية في القصيدة ، وصولاً إلى كشف بنية القصيدة ولغتها الشعرية التي تشكّل نَسَق القصيدة وتوتراتها.
تناقضات في عنوان مربك : بهجة مهمشة و حرب تفكّر
وعنوان "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" عنوانُ مربك ومحمل بالتناقض، جمع بين أقصى مفهومين إنسانيين: الحرب كرمز للدمار والخراب، والبهجة كمصدر للأمل والحياة، وهو عنوان لا يقدم مشهدًا دراميًا فحسب، بل يحمل جرحًا داخليًا متناغمًا مع رغبة إنسانية في البقاء رغم كل شىء ، و يفتح نافذة على حالة إنسانية معقدة جداَ، وقد ذهبت الشاعرة في اختيارها لهذا العنوان الى ابعد من تجسيدها للإرباك والتناقض ، فمنحت الحرب صفة الفاعلية، وجعلته كيانٌ شبه عاقل يمتلك القدرة على التأمل والتخطيط والتفكير في ترك فرصة ضئيلة ومجرد "هامش" لبهجة هشة أو مصطنعة لم تتحول إلى واقع.
وكلمة "هامش" في العنوان حملت دلالة رمزية عميقة لضآلة البهجة في زمن الحرب، والى أن الفرح في زمن الحرب ليس محورًا قائماً ، بل هو وجود هامشي، يقبع على أطراف اليأس، واستخدام الشاعرة لفعل "تفكر" وليس "تترك" أشار بذكاء ووضوح إلى دلالية تثير التوجس في أن البهجة لا تزال حبراً على ورق، وأن الرغبة فيها لم تتحول بعد إلى واقع ملموس. ثم أن هذا التركيب برمته ساهم في خلق توتر دلالي يهيئ القارئ لرحلة شعرية مشبعة بالأسى والتناقضات من جهة، و من جهة اخرى محاولةٌ يائسةٌ، أو ربما حالمة، لإيجاد بصيصٍ من الأمل والجمال في قلب الخراب. ف "هامش البهجة" هنا ليس بهجةً كاملةً أو انتصارًا، بل هو مجرد مساحةٍ صغيرةٍ، فسحةٍ ضيقةٍ، تُتيح للحياة أن تتنفس وتُقاوم الفناء. عنوان "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" لخّص ببراعةٍ جوهر القصيدة، الذي يتأرجح بين مرارة الواقع وقوة الأمل، بين اليأس من استمرار الحرب والتوق إلى لحظاتٍ من السلام والسكينة.
تيمات متداخلة بين حرب مؤلمة وبهجة غائبة
الحرب
تتجسد تيمة الأنوثة في القصيدة في تفاصيل يومية صغيرة تُمارسها المرأة، وتُصبح طقوسًا تُقاوم بها الحرب والحزن وتأمل عبرها ان تصنع البهجة فبينما (الأطفال يأكلون الحلوى) في مشهدٍ درامي، نجد (النساء الحزينات يضعن الورود البلاستيكية في المزهريات)، وهي صورةٌ رمزيةٌ تُبرز محاولةً يائسةً لإضفاء لمسةٍ من الجمال على واقعٍ مُرّ، حتى لو كان هذا الجمال زائفًا وغير حيّ. هذه الطقوس، وإن بدت بسيطة، إلا أنها تُشير إلى صمودٍ الانثى الداخليٍّ، ورغبتها المشروعة في الحفاظ على بقايا الحياة والبهجة. كوفي موضع اخر تُظهر القصيدة المرأة وهي (تستذكر رواية عشر نساء) و(تفتش عن الحب في أفلام النهايات المبهجة) مما يُشير إلى محاولتها الهروب من الواقع المؤلم إلى عوالم أخرى، سواء كانت أدبية أو سينمائية، بحثًا عن معنى أو بصيص أمل.
والقصيدة في المجمل تكشف عن وعي نسوي ناضج ومتألم ، ونص كنافذة مشرعة على الذات الأنثوية المعاصرة، التي تصارع القبح الخارجي والفراغ الداخلي ومع ذلك، لا تنجو هذه الذات من التورط في صور الخيبة والانكسار، مما يُبرز التوتر بين التمكين واللاجدوى. ففي المقطع الأخير، تُصبح المرأة "امرأة عادية"، تنسحب الحياة بين أصابعها "ولا تهتم"، وتتورم قدماها من الجلوس "ولا تهتم". هذا اللامبالاة الظاهرية ليست استسلامًا بقدر ما هي نتيجةٌ للإرهاق النفسي والجسدي من وطأة الواقع، وتُشير إلى نقطةٍ وصلت فيها المرأة إلى حالةٍ من التبلّد العاطفي، حيث لم يعد للألم تأثيره المباشر. هذا التموضع بين الوعي بالواقع المرير واللاجدوى من محاولة تغييره يُشكّل جوهر الصراع النفسي للمرأة في القصيدة.
فالذات النسوية في القصيدة تُرسم في علاقة توتر مع محيطها، فهي تكتب، تنتظر، تتأمل، لكنها لا تنكسر كلياً. تتجلى قوتها في التفاصيل الصغيرة: قراءة المذكرات، ترتيب الغرفة، مراقبة التحولات الجسدية، وغيرها من الطقوس اليومية التي تقاوم العدمية. ومع ذلك، لا تنجو هذه المرأة من التورط في صور الخيبة اليوم هي امرأة عادية ( لا تهتم)، ففي ليلة واحدة، تجلس هذه الانثى في (وسط الغرفة)، تفكّر في (رواية عشر نساء)، وتتذكر كيف (كانت تكره التفاصيل)، وكيف كانت (تمضغ أظافرها من الانتظار)، و( تبحث عن الحب في أفلام ذات نهايات مبهجة)، وكيف كانت (تتخيل أن منديلها الوردي تنهد في يد سلام قدري)، ثم أن هذه الانثى ترفض الاستسلام، فتجلس ليلاً لتقرأ مذكرات الشاعرات العظيمات، مثل آن ساكستون وفرجينيا وولف، وربما تسأل نفسها: لماذا اختاروا الموت؟ ثم تقرر، بأنوثتها وإصرارها، أن تكتب لنفسها قصة مختلفة، وأن تعيد بناء صداقة مع الحياة، حتى لو كانت الحياة لا ترحم. ( سأقرأ مذكرات الشاعرات/ خطوات وأرتب صداقة حميمة مع الحياة )
وتُبرز في القصيدة كذلك ثيمة الأنوثة المتآكلة، حيث تتحول الحرب والزمن إلى قوى تتسلل إلى الجسد الأنثوي وتُبدّده، مما يُظهر تقاطع الخاص مع العام. فالشاعرة تُعبّرعن هذا التآكل الجسدي والنفسي بقولها:(أنا التي بدأت أحس بزحف خطوط متعرجة نحو يديّ الجميلتين / أما شعري الذي طالما أعجب مصففة الشعر، فبدأ يفقد لمعانه)..هذه الشواهد تُؤكّد كيف يُقرأ الجسد الأنثوي كبنيةٍ موازيةٍ للواقع، تنهار تدريجيًا تحت وطأة الزمان والحرب. إنها ليست مجرد علاماتٍ للشيخوخة، بل هي تجسيدٌ ماديٌّ لتأثير الصراعات الخارجية على الداخل الإنساني. فالزمن هنا ليس مجرد عاملٍ بيولوجيٍّ، بل هو تيارٌ يجرّ الإنسان، والمرأة تحديدًا، نحو الذبول واللامعنى، مما يُعمّق من إحساسها بالخيبة والتآكل. وهكذا، تُصبح الأنوثة في القصيدة ليست مجرد هويةٍ جنسية، بل هي رمزٌ للصمود الهشّ، وللجمال الذي يُحاول أن يُقاوم قبح الواقع، وللذات التي تُصارع من أجل المسك ببصيصٍ من الحياة في عالمٍ يُهدّدها بالفناء.وهكذا وبذكاء مستحق تقرر الشاعرة في النهاية أنها امرأة عادية، تشعر بأن الحياة تنسحب من بين أصابعها، ولا تهتم، لأن القدمين قد تورمتا من طول الجلوس، ولأن (الشعر لم يتجاوز حدود مراهقتها)، كما لو أن الزمن نفسه توقف عند نقطة معينة، ولم يعد يحمل معه إلا ذكريات تؤلم.
بنية دلالية متماسكة ولغة شعرية بسيطة
وختاماً
وختاما قصيدة "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" لم تكتبها خلود الفلاح فقط عن الحرب، بل وصفت هشاشتنا نحن أمام قسوة هذه الحرب. ولم تكن قصيدتها صرخة، بل توسل وامل ونجوى، ولم تطلب شيئاً سوى أن يُترك للبهجة هامش، ولو بحجم نفسٍ عالق في آخر القصيدة. ربما هذا ما يجعل (عندي) هذه القصيدة عصيّة على النسيان: لأنها تذكّرنا أن الحياة حتى وسط الألم، تستحق أن تُعاش، ولو بكلماتٍ تكتبها امرأة عادية، تؤمن بأن الشعر يمكنه أن يرمّم شيئًا فينا… ولو قليلاً.
المراجع مراجع عربية.
المراجع العربية- عاشور، رضوى. (2002). العنوان بين الوظيفة الإيحائية والدلالة التفسيرية. مجلة الدراسات الأدبية، (3).
- السعيد، حسن. (2005). العنوان في الشعر العربي الحديث: دراسة في الدلالة والوظيفة.بيروت: دار النشر الجامعة
- الحسناوي، محمد. (2017). الشعر النثري: دراسات في البنية والدلالة.دار الفكر الجديد، 2017.
Fakhreddine, H. Y. (2021). The Arabic Prose Poem: Poetic Theory and Practice . Edinburgh: Edinburgh University Press.
Slimani, H. (2024). "Translation of Prose Poetry in Modern Arabic Literature." Unpublished manuscript or journal article .
Suleman, F. (2023). "Fragments of Resistance: The Prose Poem as Feminine Discourse in Contemporary Arab Writing." Journal of Postcolonial Writing , 59(4), 456–470.
🔑 كلمات مفتاحية
نرحب بتعليقاتكم