📁 آخر الأخبار

قراءة بنيوية في قصيدة "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" للشاعرة خلود الفلاح

قصيدة "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" صوت المرأة الليبية والعربية في زمن الحرب، يتردد صداه عبر كلمات تنبض بالحياة، وهي ليست مجرد سجل وثق بحزن لبعض ماحدث، بل محاولة جريئة لسبرأغوار ما يبدو عصيًا على الفهم، ووصية شعرية مفعمة بالإحساس العميق والوعي الفني المتقن. قصيدة تحمل في طياتها مزيجًا دقيقًا من الألم والأمل، والهشاشة والصمود، لترسم لوحة شعرية تعكس قسوة الواقع دون أن تفقد روحها الإبداعية والإنسانية. قصيدة غاصت في أعماق التجربة الإنسانية في ظل الصراعات والحروب، وتجاوزت مجرد الوصف السطحي للأحداث، لتكون نصًا شعريًا عميقًا يلامس الجوانب النفسية والفلسفية للحياة والموت، الأمل واليأس، الفرد والمجتمع. 

تنتمي قصيدة "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" إلى شعر النثر الحديث وما بعد الحداثة، وتمتاز بصورها الشعرية العميقة واستعاراتها الفلسفية التي منحتها بعدًا فكريًا خاصًا، تناولت الحرب، الحزن، البهجة، والأنوثة، مما أضفي عليها ثراءً دلاليًا ونفسيًا واجتماعيًا جديرًا بالتأمل والقراءة والتحليل. إنها نصًا مفعماً بالجمال يضيء زوايا معتمة ويستحق أن يُقرأ بتمعن، ويُحلل بعمق..
الشاعرة خلود الفلاح
الشاعرة خلود الفلاح
📅 الثلاثاء 23 يونيو 2025م
✍️ قراءة وتحليل : سالم أبوظهير

الشاعرة

    الشاعرة والصحفية خلود خميس الفلاح، لها بصمة واضحة ومميزة في الوسط الثقافي الليبي ، تتناول في شعرها الحب والحرب والفقد بأسلوب بسيط وحميمي ومكثف. صدر لها عدة دواوين شعرية منها "بهجات مارقة"، و" ينتظرونك" و"نساء"، كما تم ترجمة هذه القصيدة “الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة” إلى اللغة الألمانية ضمن كتاب “جناحا قلبي المثقل.”وبعض أعمالها الشعرية ترجمت للفرنسية،وكانت إحدى قصائدها ضمن مشروع "100 شاعرة من العالم العربي"وهو ما يعكس أهمية تجربتها على المستوى الإقليمي وما يعزز ذلك مشاركتها في "ملتقى الشعر العربي الحديث"، التي قدمت فيه نصوصاً تحمل رؤيتها الإنسانية العميقة. وتفرض خلود الفلاح نفسها اليوم كواحدة من أبرز الأصوات النسائية في الشعر العربي الحديث، لما تحمله من تجربة غنية بالمشاعر والعاطفة والوعي المجتمعي.

    على الصعيد الصحفي تولت الشاعرة ادارة مواقع مهمة في مؤسسة الصحافة، منها إدارتها لمكتب مجلة "الأمل" في بنغازي، ومراسلة لمجلة "الإذاعة"، ومحررة ثقافية في جريدة “العرب اللندنية ، وأسست مجلة "الرواية"، كما نظمت خلود "ملتقى المبدعات العربيات" الذي أنعقد في بنغازي عام 2012م، ورغم ظروف الحرب في تلك القترة، فقد نجح الملتقى ، وكان خطوة لإبراز دور المرأة الليبية في الحياة الثقافية ، لتعكس صورة مشرقة عن المرأة الليبية والعربية بشكل عام.   

القصيدة

  

الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة

الشاعرة خلود الفلاح


1
نكتب القصائد عن الحرب
لا يهم ما يكتب
اللون الأحمر يفكر في معنى الحرب
الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة
الأطفال يأكلون الحلوى
والنساء الحزينات يضعن الورود البلاستيكية
في المزهريات
ويكتبن قصائد عن الحرب، الحب، اليتم، الوحدة.
2
يبدأ النهار
بتفاصيل عادية
أصوات القنابل تهتز لها نوافذ البيت
يتوقف القلب لحظة ويعاود الخفقان
والنحيب عالق بحنجرة النساء
العالم يتغير يومياً
وهنا
في هذه البقعة من الكرة الأرضية
نقيم علاقة حميمة مع الحزن
نصيبنا اليومي من المتابعة الاخبارية
مشاهدات متتالية
رصاصة طائشة
مرت من هنا
صاروخ جراد
من هناك
وسواتر ترابية تفصل شوارع المدينة الواحدة
بعد سنوات طويلة
نكون كائنات منسية في شريط وثائقي.
3
سألقي كل الذكريات
في ركن الغرفة وحيدة
تقيم حفلها الخاص دوني
أنا
التي بدأت أحس بزحف خطوط متعرجة نحو يديّ الجميلتين
أما شعري الذي طالما أعجب مصففة الشعر، فبدأ يفقد لمعانه.
خطوات وأدخل مرحلة ما بعد منتصف العمر
سيكون لزاماً أن أكون أكثر
حكمةً
انتباهاً لمعدلات السكر وضغط الدم
وقد لا أتمكن من أكل البيتزا التي أحب
حين يأتي الليل
سأقرأ مذكرات الشاعرات: آن ساكستون وفرجينيا وولف
وكيف انتهت حياتهن بالانتحار؟
خطوات
وأرتب صداقة حميمة
مع الحياة.
4
الحياة بعدك
مملة
والنسوة الصامتات، الجميلات
يغلفن قالب الحلوى الذي تعشق
بالشوكولا،
وبكلمات الأغنية
ليهبن هذا الشتاء
بعضاً من حنينهن.
5
كان بالإمكان أن نصير أنا والحرب
صديقتين
نقرأ الروايات
ونشاهد أفلاماً مؤثرة عن الحروب الأهلية
ونبكي معاً
لو أنها تركت اليتامى يستمتعون بالوقت مع آبائهم
والنساء في حض أحلامهن
كان بالإمكان
أن نستمع لأغنية فيروز «بكتب اسمك يا حبيبي»
ونرقص على إيقاع خطوات زوربا
في رواية كازانتزاكيس المشهورة
ونمضي الوقت في كتابة قصائد مطولة عن الحب
أن نذهب لحضور مهرجان السيرك
ونضحك ملء قلوبنا
لو لم يسقط المهرج ويموت
لكن
هل ثمة نهاية سعيدة لصورنا على الجدران؟
6
في هذه الليلة
تستذكر المرأة الجالسة في وسط الغرفة
رواية «عشر نساء»
نساء ذهبن بأحلامها بعيداً
عندما كانت تكره التفاصيل
وتقضم أظافرها من الانتظار
وتكتب الشعر
عندما كانت تفتش عن الحب في أفلام النهايات المبهجة
وتظن أن منديلها الوردي تنهد في يد «سلام قدري»
اليوم هي امرأة عادية
تنسحب الحياة بين أصابعها
ولا تهتم
تورمت قدماها من الجلوس
ولا تهتم
والشعر لم يتجاوز حدود مراهقتها

القراءة

    تنتمي قصيدة "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجةإلى تيار الشعر الحديث أو ما يُعرف بالشعر النثري أو الشعر الحر، حيث يتميز النص بانفتاح البنية، وعدم الالتزام بالقوالب الكلاسيكية، واستخدام اللغة العامية أو شبه العامية، واعتماد الصورة الشعرية كوسيلة رئيسية للتعبير. ولقصيدة النثر شكلاً شعريًا حديثًا يتيح  للشاعرة حرية التعبير بعيدًا عن قيود الوزن والقافية التقليدية، واعتمادها على الإيقاع الداخلي والصور المكثفة لخلق تأثيرات دلالية وجمالية عميقة. واعتمادها كذلك على الصورة الشعرية كوسيلة رئيسية للتعبير عن تأثير الحرب على الذات الإنسانية بشكل عام وعلى الأنثوية بشكل خاص وهذا الأسلوب "يمنح النص طابعاً شخصياً وعاطفياً، مما يسهل على القارئ أن يدخل عالم الشاعرة ويتفاعل مع مشاعرها" (الحسناوي، 2017).

ووفقا لحفيدة سليماني في مقالها "من الهامش إلى المتن: قصيدة النثر وتحولات الذات العربية" فأن "قصيدة النثر الحديثة تُعيد تموضع الذات في مركز التجربة الشعرية، لا بوصفها ضحية، بل كفاعل لغوي وجمالي".(Slimani.2024) . حيث تتجلى في هذه القصيدة بوضوح تقاطع التجربة الشخصية مع الذاكرة الجمعية في نصٍّ يتجاوز التوثيق المباشر إلى مساءلة الوجود ذاته. وحضور الذات الأنثوية في هذه القصيدة لم يأت بوصفه اعترافًا ذاتيًّا فحسب، بل كفعل مقاومة ناعم، يعيد للغة وظيفتها الإنسانية في مواجهة العنف. حيث نلمس في القصيدة رؤية أنثوية حسّاسة تستنطق التفاصيل اليومية وتحاور فقدان الطمأنينة. وهذا ما يتقاطع مع ما طرحته الباحثة فاطمة سليمان في بحثها المنشور في مجلة Journal of Postcolonial Writing ، الذي ناقشت فيه كيف أصبحت قصيدة النثر في الكتابة العربية المعاصرة أداةً تعبيرية للمرأة لتفكيك الخطابات السلطوية، واستعادة صوت الذات في ظل العنف والقمع. والذي خلصت فيه الى أن "هذا الشكل الشعري يتيح للشاعرة بناء عالم متعدد الأصوات، لا يقتصر على التعبير عن الألم، بل يوظف اللغة كفضاء للمقاومة والتحرر."(Suleman 2023)، 

وقصيدة "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة"  رغم أنها تتسم ببنية شعرية متشظية، لكنها محكومة بإيقاع داخلي ينبع من التكرار والتوازي، وتزخر بنظام دلالي يُنتج المعنى من خلال التوتر بين العناصر. وهذا التوتر حضر بقوة في القصيدة، لا سيما في المفارقة بين "الحرب" و"البهجة"، حيث تُستدعى مفردات الطفولة والحب والذاكرة لتقابل مشاهد الدمار والخذلان. ولاتكتفي خلود الفلاح في هذه القصيدة بتوثّيق رصد تداعيات الحرب ومأسيها ، بل تمضي بحرفنة إلى أبعد من ذلك فتفككها وتعيد تركيبها وفق رؤية أنثوية حسّاسة تستنطق التفاصيل اليومية وتحاور فقدان الطمأنينة. ثم تُعيد تشكيلها عبر لغة مشحونة بالتكثيف والانزياح، وهذا - الى حد ما -  ينسجم مع ما أشارت إليه الباحثة هدى فخر الدين في كتابها The Arabic Prose Poem: Poetic Theory and Practice بـ"الانفتاح الجمالي لقصيدة النثر" والذي خلصت فيه الى أن "النص يتحول إلى فضاء حرّ تتقاطع فيه الذات مع العالم دون وسائط شكلية تقليدية"من أن قصيدة النثر الحديثة تُعيد تموضع الذات في مركز التجربة الشعرية، لا بوصفها ضحية، بل كفاعل لغوي وجمالي".(Fakhreddine, 2021).

  وضمن هذا الإطار النظري الموجز، واستعانة بالمنهج البنيوي ستبدأ القراءة بتحليل عنوان القصيدة ، مروراً بالثيمات المركزية في القصيدة ، وصولاً إلى كشف بنية القصيدة ولغتها الشعرية التي تشكّل نَسَق القصيدة وتوتراتها.

 تناقضات في عنوان مربك : بهجة مهمشة و حرب تفكّر  

    في بحث أكاديمي منشور بالعدد الثالث من مجلة الدراسات الأدبية عنوانه "العنوان بين الوظيفة الإيحائية والدلالة التفسيرية "تناولت مؤلفته رضوى عاشور أهمية العنوان كمدخل تأويلي للنص الشعري،وأشارت الى أن "العنوان ليس مجرد اسم يُطلق على القصيدة، بل هو عنصر دلالي فاعل يفتح المجال للقارئ لقراءة النص من زاوية معينة". وأضافت أن العنوان في الشعر الحديث "قد يكون مفتاح التفسير الأولي، ويحمل في كثير من الأحيان جوهر الرؤية الشعرية قبل أن يُفتح الكتاب"(عاشور،2002)، وهذا يدعم  رؤية الدكتور حسن السعيد الذي يقرر أن "العنوان ليس مجرد اسم، بل هو نافذة تطل منها القصيدة على العالم، ومن خلاله يتشكل الانطباع الأول، وتتبلور القراءة الافتراضية التي قد تؤثر على تلقي القصيدة برمتها"(السعيد، 2005). هذا الفهم يدعم رؤيتنا لعنوان "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" باعتباره عنوانًا لا يُعدّ زينة خارجية، بل مدخلاً موفقاً وظفته الشاعرة خلود الفلاح لتوجه المتلقي نحو تلقي المعاني الإنسانية العميقة التي تحملها القصيدة. 


    وعنوان "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" عنوانُ مربك ومحمل بالتناقض، جمع بين أقصى مفهومين إنسانيين: الحرب كرمز للدمار والخراب، والبهجة كمصدر للأمل والحياة، وهو عنوان لا يقدم مشهدًا دراميًا فحسب، بل يحمل جرحًا داخليًا متناغمًا مع رغبة إنسانية في البقاء رغم كل شىء ، و يفتح نافذة على حالة إنسانية معقدة جداَ، وقد ذهبت الشاعرة في اختيارها لهذا العنوان الى ابعد من تجسيدها للإرباك والتناقض ، فمنحت الحرب صفة الفاعلية، وجعلته كيانٌ  شبه عاقل يمتلك القدرة على التأمل والتخطيط والتفكير في ترك فرصة ضئيلة ومجرد "هامش" لبهجة هشة أو مصطنعة لم تتحول إلى واقع. 


    وكلمة "هامش" في العنوان حملت دلالة رمزية عميقة  لضآلة البهجة في زمن الحرب،  والى  أن الفرح في زمن الحرب ليس محورًا قائماً ، بل هو وجود هامشي، يقبع على أطراف اليأس، واستخدام  الشاعرة لفعل "تفكر" وليس "تترك" أشار بذكاء ووضوح إلى دلالية تثير التوجس في أن البهجة لا تزال حبراً على ورق، وأن الرغبة فيها لم تتحول بعد إلى واقع ملموس. ثم أن هذا التركيب برمته ساهم في خلق توتر دلالي يهيئ القارئ لرحلة شعرية مشبعة بالأسى والتناقضات من جهة، و من جهة اخرى محاولةٌ يائسةٌ، أو ربما حالمة، لإيجاد بصيصٍ من الأمل والجمال في قلب الخراب. ف "هامش البهجة" هنا ليس بهجةً كاملةً أو انتصارًا، بل هو مجرد مساحةٍ صغيرةٍ، فسحةٍ ضيقةٍ، تُتيح للحياة أن تتنفس وتُقاوم الفناء.  عنوان "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" لخّص ببراعةٍ جوهر القصيدة، الذي يتأرجح بين مرارة الواقع وقوة الأمل، بين اليأس من استمرار الحرب والتوق إلى لحظاتٍ من السلام والسكينة.

 تيمات متداخلة بين حرب مؤلمة وبهجة غائبة

    للوهلة الأولى قد يبدو لقارئ قصيدة خلود الفلاح "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" أنها مجرد تأملات شخصية عابرة، ومحض خواطر ذاتية تنبع من تجربة شخصية لشاعرة في زمن الحرب، لكن القصيدة في عمقها تتجاوز السرد المباشر لتكشف عن بنية دلالية معقدة، تتشابك فيها الثيمات الكبرى كالحرب والحزن والفقد والواقع المرير وغياب البهجة لتشكل هذه التيمات وغيرها نسيجاً فنياً يعكس الواقع الإنساني في أقصى تجلياته. لذلك فهذه القصيدة ليست مجرد نص ابداعي عن الحرب، لكنها رحلة تغوص بجراءة وشجاعة في أعماق النفس تستكشف حالاتها في لحظاتها الهشة والمضطربةوحين  تتصارع مع قسوة الواقع، وتسعى باجثة عن بصيص أمل أو معنى ضائع وسط فوضى لا ترحم وتناقضات لا تنتهي... ونستعرض هنا أهم الثيمات الكبرى المتجلية في القصيدة:

الحرب

     الحرب ثيمة رئيسية في القصيدة، ولاتظهر كحدث خارجي فقط، ومجرد معارك وانفجارات دمار وخراب بل كوجودٍ داخلي وسياق زمني، وحالة من الخسارة المستمرة، وايضا خلفية لأحداث القصيدة كلها، و كيان سردي له وعي وحضور مستقل. كما تظهر ثيمة الحرب في القصيدة كفاعل ميتافيزيقي يفكر ويتأمل (الحرب تفكر)، فتخرج من إطارها المعتاد كحدث لتدخل فضاءً مجازياً يعطيها طابعاً إنسانياً، مما يربك الثنائية التقليدية بين الحياة والدمار. وهذه الثيمة شبه المحورية في لقصيدة تتكرر داخل شبكة من الصور الشعرية التي تعيد تدوير اليومي والمألوف في خطاب الحروب (أصوات القنابل تهتز لها نوافذ البيت)، (رصاصة طائشة مرت من هنا)، (صاروخ جراد من هناك)، (أصوات القنابل تهتز لها نوافذ البيت )، صواريخ، السواتر الترابية تفصل شوارع المدينة الواحدة). وهذا التكثيف في التجسيد  الاخير يرمز إلى الانقسام والفرقة التي تُخلّفها الحرب، ليس فقط على المستوى الجغرافي، بل على المستوى الاجتماعي والنفسي أيضًا، ويبرز بشكل مؤثر عمق تأثير الحرب على كل شيء، حتى على الرموز المجردة. كونها ليست مجرد أحداث عابرة، بل هي جزء لا يتجزأ من الوعي الجمعي والفردي.

    وتتداخل تيمة الحرب مع تيمات أخرى بشكل درامي عميق ففي المقطع الخامس من القصيدة ، تقدم الشاعرة مفارقة صادمة، في أن الحرب صديقة محتملة:(كان بالإمكان أن نصير أنا والحرب / صديقتين) لتفتح بابًا للتساؤل عن طبيعة العلاقة بين الإنسان والحرب. هل يمكن أن تكون الحرب صديقة؟. سؤال يفتح بابًا لتأويل عميق، لا يعني تقبل الحرب، بل محاولة إيجاد طريقة للتعايش مع أثرها المدمر، أو حتى "ترويضها" بما يسمح للجانب الإنساني بالبقاء. رغم أن الإجابة تكمن في الشروط التي تضعها الشاعرة لهذه الصداقة المحتملة، والتي تعكس رغبة في فهم الحرب، في التعامل معها على أنها تجربة إنسانية يمكن التعلم منها. بعد ان تستدرك لتملي شروطها بفصاحة فتقول : (لو أنها تركت اليتامى يستمتعون بالوقت مع آبائهموالنساء في حض أحلامهن) وتتوالى مثل هذه الصور في القصيدة لتعكس جمال الحياة وبساطتها، الفن والموسيقى، الحب والضحك. عند الشاعرة التي تدعونا للتأمل في ما خسرته البشرية بسبب الحرب، ونحلم في نفس الوقت  بالتمتع بتلك تلك اللحظات الجميلة التي لم تتحقق (نقرأ الروايات/ نشاهد أفلاما مؤثرة/تكتب الشعرنضحك ملء قلوبنا/ نستمع لأغنية فيروزوالعيش في بهجة مؤجلة ، والتي هي تيمة أخرى من تيمات هذه القصيدة.

البهجة

    ثيمة البهجة تتوازى مع ثيمة الحرب، في تشابك دلالي بين حرب مؤلمة وبهجة غائبة مما يشكل نسيجاً إنسانياً معقداً، يعكس حالة الشاعرة وربما حال من عاشوا زمن الحروب والاشتباكات. وهذا التناقض الذي صورته الشاعرة بالبحث عن البهجة والأمل في زمن الحرب كتفصيل من تفاصيل الحياة اليومية هو جوهر القصيدة كلها ، تناقض يُشير إلى بنيةٍ نفسيةٍ مُعقّدة، تُحاول أن يوازن بين قسوة الواقع وضرورة التمسّك ببصيصٍ من الحياة. فبداية من العنوان  "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" عكست الشاعرة كما ذكرنا سابقاً مفارقة دلالية عميقة وشديدة الجاذبية. فالحرب، كمفهوم، ترتبط بالدمار والخراب واليأس، بينما البهجة هي نقيضها تمامًا. وهذا التناقض ايضا خلق تشويقًا فكريًا منذ مفتتح القصيدة.
     ورغم أن الفرح يحضر في القصيدة كظل خافت، لا يُرى بوضوح، لكن وجود كبهجة ممنوعة،  معلقة بين السطور، وحالة وجودية، ترمزٍ بشدة لمقاومة الموت الذي تزرعه الحرب، ومثل  فسحة صغيرة تنمو فيها زهرة ما بين شقوق الرماد. وقد تعاملت الشاعرة ببراعة مع تفاصيل يومية بسيطة ومبهجة، لكنها محمَّلة بدلالات عميقة جداً مثل: ( تناول الحلوىوضع الورود في المزهريات/ الترتيب لصداقة حميمةتغليف قوالب الحلوىأكل البيتزاقراءة الروايات/مشاهدة الأفلامالضحك/الرقص/كتابة القصائد سماع الموسيقى ) . هذه التصرفات، التي قد تبدو تافهة في ظاهرها، تصبح في سياق القصيدة نشيدًا للحياة، مقاومة متواضعة ضد سواد الحرب. إنها محاولات متواضعة لإعادة تعريف الفرح، ليس كحدث كبير يُحتفى به، بل كلحظة انقطاع مؤقت عن الألم، كأن تقول الشاعرة: حتى في زمن الدمار، أنا لي حقٌّ في أن أتذوَّق شيئًا حلوًا، أو أضع زهرة في شعري، ولو كانت الريح تحمل رائحة الدخان.
    والبهجة تظهر أيضًا في الحنين إلى الماضي ، واستعادة حظات الضحك و الأمان، التي وان بدت غائبة أو من عالم آخر. لكن الشاعرة تستدعيها كأنها بصيص ضوء يحاول العودة، وبالتالي، تُعد البهجة تيمة محورية في القصيدة، وان كانت غامضة تراوغ النص، وتطل برأسها ثم تختفي، وتكتب عنها الشاعرة  دون أن تعيشها، لتتحول الى بهجة باقية مغلفة بالحزن، وملطخة باللون الاحمر ورماد الحروب،  وهذا البقاء ذاته هو أعظم انتصار في زمن الحرب؛ حين تبقى فكرة البهجة حية في الذاكرة، وفي أطفال يأكلون الحلوى، وسط الدمار ، ونساء يضعن  ورود بلاستيكية  في المزهريات بلا سبب، وهذه شواهد و اعتراف بأن الحياة ما زالت تتنفس.

الحزن

    يتجلى الحزن كعمود فقري للقصيدة، والثيمة الجوهرية التي تنبض في النص من بدايته حتى نهايته، ليس يوصفه عاطفة طارئة أو انفعالً عابر، بل يظهر واضحاً وبشدة كحالة وجودية متمددة في تفاصيل الحياة اليومية للذات الشاعرة، حين ترتبط  هذه التيمة بشكل عضوي بالحرب وتداعياتها، والفقد ومأسيه واليتم ولوعاته،  وتتشكل في صور شعرية مشبعة بالألم واليأس والكتمان. كما ان الحزن في هذه القصيدة ليس مجرد أثر جانبي للخراب، لكنه يستوطن الجسد والذاكرة، وتحول الى مايبدو وكأنه أساس التجربة الشعرية كلها. فمنذ المقطع الأول، توظف الشاعرة رموزًا دالة على الحزن المقموع والمزمن، فـ(الورود البلاستيكية) التي تضعها "النساء الحزينات في المزهريات"، ليست مجرد تفاصيل منزلية، بل استعارة لحالة التكلّس العاطفي والجمود الوجداني الذي تخلفه الحرب في الأرواح. هذه الورود، ببرودتها وافتقارها إلى الحياة، توحي بأمل زائف، أو ربما بمحاولة تجميل واقع ميت، محاولة خجولة لإضفاء مسحة جمال على قبح لا يُحتمل.
    والحزن يفيض بشكل مؤلم في مقطع القصيدة الثاني، حين تصرح الشاعرة بأسى بأن : (النحيب عالق بحنجرة النساء) ، فكم مؤلم هذا المشهد الذي يفيض بالألم المكبوت، حيث لا صوت للبكاء، بل صمتٌ مشبع بكل ما لايطاق ، ومعاناة تتراكم  حتى تعجز اللغة عن احتوائها. وتمضي خلود في جعل نص القصيدة يتماهى مع الحزن بوصفه ممارسة روتينية فتقررانها (نقيم علاقة حميمة مع الحزن)، ويتصاعد حضور الحزن حتى يجعل من مظاهر الجمال العابرة تبدو مؤقتة ومحمّلة بالحزن والفقد، حين تبرع في توظيف التحولات الجسدية للمرأة في القسم الثالث من القصيدة (زحف خطوط متعرجة نحو يديّ الجميلتين)، و (شعري بدأ يفقد لمعانه).
وتدريجيا وعلى هذا النحو، تحول الشاعرة بإقتدار الحزن في القصيدة من مجرد تيمة إلى مكوّن يومي يعيد انتاج نفسه يوميا ،ولا يمكن الفكاك منه، والى أسلوب في البوح، ومرآة تعكس هشاشة الإنسان في زمن تتكسر فيه المعاني.ففي  مشهد مؤلم ومضيء في آن، نقرأ في القصيدة (النسوة الصامتات، الجميلات/  يهبن هذا الشتاء بعضاً من حنين.)، وكأن الحزن هنا تحوّل إلى عطاء هشّ، إلى دفءٍ يُهدى للعالم البارد. لذا فالشاعرة لاتنكر الحزن، بل تجعله مادةً للتعبير، وقيمةً إنسانية، تقاوم عبرها النسوة جمود الفصول وفقد الأحباب.
     إنه حزن معرفي، إن جاز التعبير، لا يكتفي بتسجيل الألم، بل يحلله، يعيد تشكيله، ويضعه في قلب المساءلة الشعرية.يصف حياة مملة بعد الفقد وأحلام مُجهضة وطموحات مفقودة. ويبرز ذلك كله بوضوح وحزن حتى تختتم الشاعرة قصيدتها بصورة المرأة التي (تنسحب الحياة بين أصابعها)، وهي صورة رمزية قوية للوهن والاستسلام، حيث تفقد المرأة قدرتها على التمسك بالحياة، وتصبح غير مبالية بما يحدث حولها. هذه الصورة تعكس عمق اليأس والإرهاق النفسي الذي تسببه الحرب، وتحول الإنسان إلى كائن لا يكترث، حتى لو (تورمت قدماها من الجلوس).

الأنوثة

    تتجسد تيمة الأنوثة في القصيدة في تفاصيل يومية صغيرة تُمارسها المرأة، وتُصبح طقوسًا تُقاوم بها الحرب والحزن وتأمل عبرها ان تصنع البهجة فبينما (الأطفال يأكلون الحلوى) في مشهدٍ درامي، نجد (النساء الحزينات يضعن الورود البلاستيكية في المزهريات)، وهي صورةٌ رمزيةٌ تُبرز محاولةً يائسةً لإضفاء لمسةٍ من الجمال على واقعٍ مُرّ، حتى لو كان هذا الجمال زائفًا وغير حيّ. هذه الطقوس، وإن بدت بسيطة، إلا أنها تُشير إلى صمودٍ الانثى الداخليٍّ، ورغبتها المشروعة في الحفاظ على بقايا الحياة والبهجة. كوفي موضع اخر تُظهر القصيدة المرأة وهي (تستذكر رواية عشر نساء) و(تفتش عن الحب في أفلام النهايات المبهجة) مما يُشير إلى محاولتها الهروب من الواقع المؤلم إلى عوالم أخرى، سواء كانت أدبية أو سينمائية، بحثًا عن معنى أو بصيص أمل.

    والقصيدة في المجمل تكشف عن وعي نسوي ناضج ومتألم ، ونص كنافذة مشرعة على الذات الأنثوية المعاصرة، التي تصارع القبح الخارجي والفراغ الداخلي ومع ذلك، لا تنجو هذه الذات من التورط في صور الخيبة والانكسار، مما يُبرز التوتر بين التمكين واللاجدوى. ففي المقطع الأخير، تُصبح المرأة "امرأة عادية"، تنسحب الحياة بين أصابعها "ولا تهتم"، وتتورم قدماها من الجلوس "ولا تهتم". هذا اللامبالاة الظاهرية ليست استسلامًا بقدر ما هي نتيجةٌ للإرهاق النفسي والجسدي من وطأة الواقع، وتُشير إلى نقطةٍ وصلت فيها المرأة إلى حالةٍ من التبلّد العاطفي، حيث لم يعد للألم تأثيره المباشر. هذا التموضع بين الوعي بالواقع المرير واللاجدوى من محاولة تغييره يُشكّل جوهر الصراع النفسي للمرأة في القصيدة.

     فالذات النسوية في القصيدة تُرسم في علاقة توتر مع محيطها، فهي تكتب، تنتظر، تتأمل، لكنها لا تنكسر كلياً. تتجلى قوتها في التفاصيل الصغيرة: قراءة المذكرات، ترتيب الغرفة، مراقبة التحولات الجسدية، وغيرها من الطقوس اليومية التي تقاوم العدمية. ومع ذلك، لا تنجو هذه المرأة من التورط في صور الخيبة اليوم هي امرأة عادية ( لا تهتم)، ففي ليلة واحدة، تجلس هذه الانثى  في (وسط الغرفة)، تفكّر في (رواية عشر نساء)، وتتذكر كيف (كانت تكره التفاصيل)، وكيف كانت (تمضغ أظافرها من الانتظار)، و( تبحث عن الحب في أفلام ذات نهايات مبهجة)، وكيف كانت (تتخيل أن منديلها الوردي تنهد في يد سلام قدري)، ثم أن هذه الانثى  ترفض الاستسلام، فتجلس ليلاً لتقرأ مذكرات الشاعرات العظيمات، مثل آن ساكستون وفرجينيا وولف، وربما تسأل نفسها: لماذا اختاروا الموت؟ ثم تقرر، بأنوثتها وإصرارها، أن تكتب لنفسها قصة مختلفة، وأن تعيد بناء صداقة مع الحياة، حتى لو كانت الحياة لا ترحم. ( سأقرأ مذكرات الشاعرات/ خطوات وأرتب صداقة حميمة مع الحياة )

    وتُبرز في القصيدة كذلك ثيمة الأنوثة المتآكلة، حيث تتحول الحرب والزمن إلى قوى تتسلل إلى الجسد الأنثوي وتُبدّده، مما يُظهر تقاطع الخاص مع العام. فالشاعرة تُعبّرعن هذا التآكل الجسدي والنفسي بقولها:(أنا التي بدأت أحس بزحف خطوط متعرجة نحو يديّ الجميلتين / أما شعري الذي طالما أعجب مصففة الشعر، فبدأ يفقد لمعانه)..هذه الشواهد تُؤكّد كيف يُقرأ الجسد الأنثوي كبنيةٍ موازيةٍ للواقع، تنهار تدريجيًا تحت وطأة الزمان والحرب. إنها ليست مجرد علاماتٍ للشيخوخة، بل هي تجسيدٌ ماديٌّ لتأثير الصراعات الخارجية على الداخل الإنساني. فالزمن هنا ليس مجرد عاملٍ بيولوجيٍّ، بل هو تيارٌ يجرّ الإنسان، والمرأة تحديدًا، نحو الذبول واللامعنى، مما يُعمّق من إحساسها بالخيبة والتآكل. وهكذا، تُصبح الأنوثة في القصيدة ليست مجرد هويةٍ جنسية، بل هي رمزٌ للصمود الهشّ، وللجمال الذي يُحاول أن يُقاوم قبح الواقع، وللذات التي تُصارع من أجل المسك ببصيصٍ من الحياة في عالمٍ يُهدّدها بالفناء.وهكذا وبذكاء مستحق تقرر الشاعرة في النهاية أنها امرأة عادية، تشعر بأن الحياة تنسحب من بين أصابعها، ولا تهتم، لأن القدمين قد تورمتا من طول الجلوس، ولأن (الشعر لم يتجاوز حدود مراهقتها)، كما لو أن الزمن نفسه توقف عند نقطة معينة، ولم يعد يحمل معه إلا ذكريات تؤلم. 

 بنية دلالية متماسكة ولغة شعرية بسيطة

   قصيدة "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة" نص شعري متميز وعميق، مكتوب بنمط حديث يميل إلى الشعر الحر، الغير ملتزم بقافية واحدة، ولا مقيد بوزن تقليدي، مما يعكس (من ناحية) روح العصر وتعزيز الانطباع بالانسيابية والقرب من الواقع. و(من ناحية أخرى) يعطي انطباعاً بأن خطاب القصيدة مباشر، عفوي، وغير متكلف. فتستخدم اللغة العامية أحياناً، لا تخرج عن إطار الفصحى. وبذلك نجحت الشاعرة في خلق توازن ذكي بين الحداثة والعمق الثقافي المحلي ، مكنها من نسج لوحةٍ شعريةٍ مُعقّدة، تُجمع بين مرارة الألم وبصيص الأمل، وبين الواقع المرير للحرب والأمل في إيجاد فسحة للبهجة. وإستخدام الشاعرة للغة اليومية، القريبة من الواقع، جعل قصيدتها سهلة الفهم ومؤثرة، وتحمل دلالات فكرية وإنسانية عميقة في نفس الوقت. ومفعمة بالبساطة البعيدة عن السطحية، بساطة تخفي وراءها طبقات متعددة من المعاني والدلالات. 

    ولم تكتف بسرد الأحداث، بل تعمقت في تحليل تأثير هذه الحرب على النفس البشرية، وبذلك برزت قدرتها في التقاط التفاصيل الدقيقة وتحويلها إلى  تجربة شعرية شاملة مؤثرة، تترك أثرًا عميقًا في نفس القارئ، وتدعوه إلى التفكير في معنى الحرب، ومعنى الحياة، ومعنى البهجة في عالم مضطرب.، وتخلق نوعًا من التعاطف والارتباط العاطفي، كأن الشاعرة تخاطب القارئ مباشرة فتستفزه بمحبة ليبقى داخل النص لا خارجه.

البنية 

    بنية القصيدة محكمة ومتماسكة، تتوزع على ستة أبيات طويلة (فقرات)، تتصل بعضها ببعض عبر فكرة أو مشاعر مستمرة، مما خلق انسياباً زمنياً ونفسياً في التعبير، تجعل المتلقي ينتقل بسلاسة بين الماضي والحاضر، وبين الواقع والخيال. وفي المقاطع الستة المرقمة، تتشابك البنية الشكلية للقصيدة مع البنية الدلالية؛ حيث تتوالى سطور القصيدة في  تقسيم منظم لكنه بلا اتساق واضح،  ليبدو كأنه انعكاس لفوضى الواقع وانعدام الأمان. وهذا التدرج في البنية على هذا النحو يعكس تدرجًا في الوعي، من العام إلى الخاص، ومن الواقع إلى التأمل.
كما تستخدم الشاعرة صوراً يومية تحمل دلالات عميقة، وتتدفق الأفكارفيها  بحرية بين مقطع ومقطع ، لتبدو وكأنها لقطات متتالية في شريط سينمائي. والبعض الآخر ينفصل ليبدأ فصلاً جديداً في حياة الشاعرة أو المجتمع الذي تعيش فيه. هذه البنية المفتوحة تعكس حالة اللخبطة النفسية والاجتماعية التي تنتجها الحرب، والتي لا يمكن اختزالها في قالب واحد أو نظام ثابت.
    
     وهذا التقطيع (الموفق) عبر مقاطع شكّل شبكة دلالية متصلة، كلّ لبنة فيها تكمّل الأخرى في بناء تجربة شعرية شاملة، منحت القصيدة إيقاعاً خاصاً، وجعل فكرتها رغم ما تحمله من تناقضات قريبة من المتلقي حيث كل مقطع فيها يمثل فكرة أو حالة شعورية معينة، تتضافركلها لتشكل لوحة متكاملة تعكس رؤية الشاعرة للحرب والحياة، وهذا ما منح القصيدة برمتها عمقاً وتعددية في الدلالة.
 
   وتتجلى البنية الزمنية في القصيدة في لجؤ الشاعرة الى توظيف إلى أفعال مستقبليّة تُجاور أفعالًا ماضية، ما خلق زمنًا شعريًا ملتبسًا، لا يكتمل فيه الحدث، بل يتحرك في حلقة من التكرار والتوقّع، نجد الشاعرة تلقي الذكريات تُلقى في ركن الغرفة في محاولة للتخلص من عبء الماضي أو إعادة ترتيب العلاقة معه (سألقي كل الذكريات) وكأنها كيان مستقل يقيم حفله الخاص، مما يعكس محاولة الانفصال عن الماضي المؤلم أو ربما الاعتراف بثقله الذي لا يمكن التخلص منه بسهولة. هذا المقطع يربط بين الزمن الشخصي والزمن العام للحرب، فتقدم العمر وتغير الجسد يصبحان انعكاساً لتغير العالم المحيط...حتى تختتم بتساؤل مفتوح سؤال لا ينتظر إجابة، بل يُبقي القصيدة مشرعة على احتمالات القارئ. فتتسأل: (هل ثمة نهاية سعيدة لصورنا على الجدران؟

من ناحية النية الايقاعية للقصيدة فرغم عدم وجود وزن ثابت، فإن القصيدة تحمل إيقاعاً داخلياً نابعاً من التكرار، والتفاوت في الطول، واستخدام الجمل القصيرة والطويلة،  والفواصل المتناثرة، مما يعكس نبضاً داخلياً متقطعاً، وكأن القصيدة تكتب نفسها بنفس التوتر الذي يكتبه القلب الخافق تحت القصف،وهذا ما عزز التأثير النفسي على القارئ. فتقول مثلاً (يتوقف القلب لحظة ويعاود الخفقان والنحيب عالق بحنجرة النساء).

وفي مقطع لافت، تحيلنا الشاعرة في صورة اخرى  إلى مذكرات آن ساكستون وفرجينيا وولف، وهما رمزان شعريان للمعاناة الوجودية وللسيرة التي تنتهي بالفقد حين تقول: (سأقرأ مذكرات الشاعراتوكيف انتهت حياتهن بالانتحار؟ )  هذا التناص لا يأتي كفعل معرفي بل كمرآة تشظّت فيها الذات القارئة، ونجد هذا التكثيف والتركيب المقطعي،يبني صورة مركبة تجمع بين الإعجاب والخوف، بين التأثير والموت .كما نرى تداخلاً بين الذات والآخر، حيث تستحضر الشاعرة شخصيات أدبية غربية، ليس بهدف التقليد، بل لفهم معنى الموت والإبداع، ومحاولة إعادة ترتيب علاقة الذات بالحياة
 
    ولعل أبرز ما يميز بنية  القصيدة هو التكرار الدلالي لمفردة الكتابة: (نكتب القصائد عن الحربويكتبن قصائد عن الحرب، الحب، اليتم، الوحدةنمضي الوقت في كتابة قصائد مطولة عن الحب). هذا التكرار ليس مجرد صدى او عنصر ايقاعي أو ترسيمة دلالية، بل هو تأكيد على دور الشعر والكتابة كوسيلة للتعبير والمقاومة، وكأن الشاعرة تقول إن الكلمة هي السلاح الوحيد المتبقي في وجه الدمار. إنها محاولة لتخليد الألم، وتحويله إلى فن، ليبقى شاهدًا على ما حدث.

اللغة والصور   

      لغة القصيدة بسيطة ومباشرة، وقريبة من لغة الحديث اليومي، وهذا أضفي على القصيدة طابعاً حميمياً وواقعياً. فقد تجنبت الشاعرة  الزخرفة اللغوية المعقدة، وأشتغلت على إيصال المعنى والمشاعربوضوح وصدق.، وهذا ما جعل النص أكثر واقعية وتأثيراً. كما استخدمت  لغة تمزج بين التصوير الواقعي والتعبير الرمز، واستخدمت بذكاء ضمير المتكلم (أنا) و(سألقي) فعززت من الطابع الشخصي والتأملي للقصيدة، وجعلت القارئ يشعر وكأنه يشارك الشاعرة في رحلتها الداخلية.

    وتزخر القصيدة بالعديد من الصور الشعرية البديعة التي تضفي عليها عمقًا وجمالًا، وتجعل القارئ يتفاعل معها على مستويات متعددة. ، وهذه الصور ليست مجرد زينة لفظية، بل هي أدواتٌ فاعلةٌ تُسهم في بناء المعنى وتكثيف الدلالة.فمنذ المقطع الأول تقرر الشاعرة ان تبسط على القاريء لتقدم له الفكرة المحورية للقصيدة، وهي التناقض بين كتابة القصائد عن الحرب ورغبة الحرب نفسها في ترك هامش للبهجة. هذا التناقض يظهر جليًا في قولها: (نكتب القصائد عن الحرب / لا يهم ما يكتب / اللون الأحمر يفكر في معنى الحرب / الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة).وهنا ايضا يظهر استخدام استعاري عميق، يجعل اللون رمزاً للدم والصراع، ويجعل له وعياً، يتجسد في الأحمر فالشاعرة تجسد بشكل مؤثر االدمار والعنف، وتُضفي عليه ايضا بعدًا فكريًا، وكأن اللون نفسه يتأمل في مأساته.وفي هذه الصورة مجاز انزياحي يُعطي اللون وعيًا وتأملًا، ما يعكس تواطؤ الجمال مع الدمار، وتُحيلنا إلى دلالاتٍ أعمق من مجرد اللون، لتُصبح رمزًا للمعاناة والتساؤل الوجودي. وفي مشهد أخر نجد (النساء الحزينات يضعن الورود البلاستيكية في المزهريات) في صورةٌ رمزيةٌ تُبرز محاولةً يائسةً لإضفاء لمسةٍ من الجمال على واقعٍ مُرّ، حتى لو كان هذا الجمال زائفًا وغير حيّ. هذه الطقوس، وإن بدت بسيطة، إلا أنها تُشير إلى صمودٍ داخليٍّ، ورغبةٍ في الحفاظ على بقايا الحياة والبهجة.. 

    وتمضي الشاعرة في رسم صورة معبرة اخرى يتداخل اليومي فيها مع المأساوي: ، و تتداخل أصوات الحرب مع تفاصيل الحياة اليومية، فـتقول (أصوات القنابل تهتز لها نوافذ البيت)، وهذه الصورة الحسية تجعل القارئ يشعر بالاهتزاز والخوف الذي يعيشه سكان المنطقة. و (يتوقف القلب لحظة ويعاود الخفقان) في صورة معبرة عن الصدمة والخوف الذي يعيشه الأفراد بشكل يومي.
وفي المقطع الثاني من القصيدة تصف الشاعرة بعمق تفاصيل الحياة اليومية في ظل الحرب، حيث (يبدأ النهار بتفاصيل عادية / أصوات القنابل تهتز لها نوافذ البيت ). هنا، تتداخل الحياة العادية مع أصوات الحرب، مما يخلق جوًا من التوتر والقلق. وتبرز صورة (يتوقف القلب لحظة ويعاود الخفقان) كدلالة على الصدمة والخوف الذي يعيشه الأفراد. كما أن (النحيب عالق بحنجرة النساء) يعكس حجم المعاناة والألم الذي يكتمنه. وتتأمل الشاعرة في تغير العالم وتأثير الحرب على الهوية، حيث (نكون كائنات منسية في شريط وثائقي)، مما يشير إلى شعور بالضياع والتهميش.وهذه صورة رمزية للمصير الذي ينتظر ضحايا الحرب، حيث يتحولون إلى مجرد أرقام أو مشاهد عابرة في سجل التاريخ، يفقدون إنسانيتهم وتفاصيل حياته.

    وفي المقطع الثالث، تتجه الشاعرة نحو الذات الانثوية ، وتتأمل في مرور الزمن وتأثيره على الجسد والنفس. فتقرر (سألقي كل الذكريات / في ركن الغرفة وحيدة)، في محاولة للتخلص من أعباء الماضي. وتصف التغيرات الجسدية التي تطرأ عليها: (التي بدأت أحس بزحف خطوط متعرجة نحو يديّ الجميلتين / أما شعري الذي طالما أعجب مصففة الشعر، فبدأ يفقد لمعانه). هذا المقطع يعكس مرحلة النضج والقبول بالواقع، حيث تستعد الشاعرة لمرحلة (ما بعد منتصف العمر) وتفكر في (الحكمة) و(الانتباه لمعدلات السكر وضغط الدم). وتختتم المقطع بتأمل في مصير الشاعرات اللواتي انتهت حياتهن بالانتحار، مما يضيف بعدًا فلسفيًا للقصيدة، لكنها في النهاية ترتب ( صداقة حميمة / مع الحياة)، مما يدل على رغبتها في التمسك بالأمل.

     والتفاصيل السابقة قد تبدو ظاهرياً تصرفات يومية عادية وروتينية لاتستحق الأهتمام، لكنه ضمن سياق القصيدة تصبح  نشيدًا للحياة، ومقاومة متواضعة ضد سواد الحرب.ومحاولات متكررة لإعادة تعريف الفرح،و ليس كحدث كبير يُحتفى به، بل كلحظة انقطاع مؤقت عن الألم، كأن تقول الشاعرة:( حتى في زمن الدمار / أنا لي حقٌّ في أن أتذوَّق شيئًا حلوًا/ ولو كانت الريح تحمل رائحة الدخان 
المقطع الرابع قصير ومكثف، يعبر عن الحزن والفقدان بعد رحيل شخص عزيز: (الحياة بعدك / مملة). وتظهر صورة (النسوة الصامتات، الجميلات / يغلفن قالب الحلوى الذي تعشق / بالشوكولا، / وبكلمات الأغنية / ليهبن هذا الشتاء / بعضاً من حنينهن)، مما يرمز إلى محاولة التغلب على الحزن من خلال طقوس بسيطة تحمل في طياتها الكثير من المشاعر.أما المقطع الخامس، فيمثل نقطة تحول في القصيدة، حيث تتخيل الشاعرة إمكانية التعايش مع الحرب لو أنها تركت مجالًا للبهجة. فتقول: (كان بالإمكان أن نصير أنا والحرب / صديقتين). وتتخيل سيناريوهات بديلة للحياة لو لم تكن الحرب موجودة: (لو أنها تركت اليتامى يستمتعون بالوقت مع آبائهم / والنساء في حض أحلامهن). وتستحضر صورًا من الفن والموسيقى، مثل أغنية فيروز ورقصة زوربا، لتعبر عن الحياة التي كان يمكن أن تكون. لكنها تختتم بتساؤل مؤلم: (هل ثمة نهاية سعيدة لصورنا على الجدران؟)، مما يعكس اليأس من إمكانية تحقيق السعادة في ظل الحرب.

    وتستخدم الشاعرة صورًا متناقضة لتعكس الواقع المرير، فبينما (الأطفال يأكلون الحلوى)، في صورة للبراءة والفرح، نجد (النساء الحزينات يضعن الورود البلاستيكية في المزهريات)، في صورة للحزن والأمل الزائف. هذا التناقض يبرز حجم المأساة التي تعيشها الشخصيات في القصيدة. ثم  تعبر الشاعرة عن شعور الفقدان والضياع من خلال صور مؤثرة، مثل (النحيب عالق بحنجرة النساء)، وهي صورة حسية تعبر عن الألم المكبوت. وصورة (نكون كائنات منسية في شريط وثائقي) تعكس شعورًا عميقًا بالتهميش والنسيان، وكأن حياتهم مجرد مادة للأرشيف...ورغم  سوداوية الواقع في الصورة السابقة ، تحاول الشاعرة أن تجد بصيص أمل، فتستحضر صورًا من الفن والموسيقى كبديل للواقع المرير فتقول : (أن نستمع لأغنية فيروز/ بكتب اسمك يا حبيبي / ونرقص على إيقاع خطوات زوربا). لكن هذا الأمل يتبدد مع السؤال المؤلم: (هل ثمة نهاية سعيدة لصورنا على الجدران؟)، مما يترك القارئ أمام حقيقة أن الحرب لا تترك مجالًا للسعادة الحقيقية.

    تنتهي القصيدة في المقطع السادس بمجموعة من الصور التي تشير إلى الانسحاب من الحياة، وتقرير بأنها (امرأة عادية) (تستذكر المرأة الجالسة في وسط الغرفة / رواية عشر نساء)، مما يربط القصيدة بالواقع الأدبي والثقافي. و ( تنسحب الحياة بين أصابعها / ولا تهتم)،وهذه صورة رمزية قوية للوهن والاستسلام، حيث تفقد المرأة قدرتها على التمسك بالحياة، وتصبح غير مبالية بما يحدث حولها. و تعكس عمق اليأس والإرهاق النفسي الذي تسببه الحرب، وتحول الإنسان إلى كائن لا يكترث، حتى لو (تورمت قدماها من الجلوس). مما يدل على حالة من اللامبالاة واليأس بعد كل ما مرت به. وتختتم القصيدة بصورة الشعر الذي (لم يتجاوز حدود مراهقتها)، مما يشير إلى أن الشعر لم يعد قادرًا على التعبير عن عمق المعاناة التي تعيشها المرأة في ظل الحرب.

وختاماً 

    وختاما قصيدة "الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة"  لم تكتبها  خلود الفلاح فقط عن الحرب، بل وصفت هشاشتنا نحن أمام قسوة هذه الحرب. ولم تكن قصيدتها صرخة، بل توسل وامل ونجوى، ولم تطلب شيئاً سوى أن يُترك للبهجة هامش، ولو بحجم نفسٍ عالق في آخر القصيدة. ربما هذا ما يجعل (عندي) هذه القصيدة عصيّة على النسيان: لأنها تذكّرنا أن الحياة حتى وسط الألم، تستحق أن تُعاش، ولو بكلماتٍ تكتبها امرأة عادية، تؤمن بأن الشعر يمكنه أن يرمّم شيئًا فينا… ولو قليلاً. 

المراجع مراجع عربية.

المراجع العربية 

  • عاشور، رضوى. (2002). العنوان بين الوظيفة الإيحائية والدلالة التفسيرية. مجلة الدراسات الأدبية، (3).
  • السعيد، حسن. (2005). العنوان في الشعر العربي الحديث: دراسة في الدلالة والوظيفة.بيروت: دار النشر الجامعة
  • الحسناوي، محمد. (2017). الشعر النثري: دراسات في البنية والدلالة.دار الفكر الجديد، 2017.

المراجع الأجنبية 
  • Fakhreddine, H. Y. (2021). The Arabic Prose Poem: Poetic Theory and Practice . Edinburgh: Edinburgh University Press.

  • Slimani, H. (2024). "Translation of Prose Poetry in Modern Arabic Literature." Unpublished manuscript or journal article .

  • Suleman, F. (2023). "Fragments of Resistance: The Prose Poem as Feminine Discourse in Contemporary Arab Writing." Journal of Postcolonial Writing , 59(4), 456–470. 


🔑 كلمات مفتاحية

  قصيدة الحرب تفكر في ترك هامش للبهجة،خلود الفلاح،الشعر النثري العربي،قراءة نقدية لقصيدة حديثة،البهجة في زمن الحرب،الأنوثة في الشعر العربي،التحليل البنيوي للشعر، رمزية الحرب والأنثى، قصائد عن الحرب واليتم، نقد شعر خلود الفلاح، شعر نثري،الأنوثة في الشعر، تأثير الحرب على الإنسان، الحزن في الأدب، الأدب العربي المعاصر، قصيدة النثر.
صحيفة المنظار الليبية
صحيفة المنظار الليبية
تعليقات