في هذا المقال: نبذة سريعة عن قضية سجن ابوسليم ،وتحليل قانوني لحكم المحكمة الليبية في القضية ، واجابة سؤال: لماذا قضت المحكمة الليبية بسقوط الجريمة بالتقادم؟ وكيف يتعارض هذا الحكم مع مبادئ القانون الدولي والمحكمة الجنائية الدولية بشأن الجرائم ضد الإنسانية؟ تابع قراءة المقال كاملا من هنا 👇
🗞️ صحيفة المنظار الليبية
✍️ اعداد : فريق التحرير
📅 التحديث: الأثنين 25 أغسطس 2025م
🔓 قضية بوسليم جريمة لن تُنسى
في زاوية مظلمة من تاريخ ليبيا، وقع حدثٌ صُنّف من أبشع الجرائم ضد الإنسانية في العصر الحديث. حدثٌ لم يُكتب له أن يُغلق بابه بالعدالة، بل بقي مفتوحًا كجرح نازف في قلب الأمة.
إنه مأساة سجن أبو سليم، التي لم تكن مجرد "تمرد سجناء" كما أُوهم العالم، بل كانت مجزرة مخططة، بدم بارد، بأوامر عليا. وهنا نروي القصة كما كشفتها المحكمة، من وثائق رسمية، وشهادات ناجين، وتفاصيل رواها من كانوا داخل السجن، وآخرون اضطروا لدفن جثث رفاقهم بأيديهم.
في شهر يونيو 1996م ، اندلع توتر داخل أسوار سجن أبو سليم، أحد أكثر السجون الليبية قسوة وسوءًا في السمعة.
السجناء، ومعظمهم من المعارضين السياسيين، عانوا لسنوات من الاكتظاظ، وانعدام الرعاية الطبية، ومنع الزيارات، والتعذيب. لكن ما بدأ كشجار بسيط بين سجين وحارس، تحوّل إلى تمرد.
استولى السجناء على مفاتيح الزنازين، وطالبوا بتحسين أوضاعهم، وعرضهم على القضاء، والسماح بزيارة عائلاتهم. لكن هذه المطالب المشروعة قوبلت بردّ لم يكن متوقعًا: إبادة جماعية.
🚨المجزرة: يوم دامس في تاريخ ليبيا
في لحظة مروعة، تم إصدار أوامر — وفقًا لشهادات وردت في وثائق المحكمة — بتصفية السجناء.
لم يكن الأمر رد فعل على تمرد، بل عملية تطهير منظمة.
تمت إقامة حواجز، وحصار السجن. ثم بدأ تنفيذ الأوامر:
- تم سحب السجناء من زنازينهم، واحدًا تلو الآخر.
- نُقلوا إلى الساحات، حيث وُجهت إليهم الرصاصات في الرؤوس.
- استُخدمت القنابل اليدوية داخل الزنازين لقتل من تبقى.
- بعض المرضى الذين نُقلوا تحت ذريعة "العلاج" قُتلوا لاحقًا خارج السجن.
الأرقام؟ أكثر من
1200 سجين قُتلوا في ساعات قليلة. لم يكن تمردًا، بل مجزرة ممنهجة.
🪦ما بعد الدم: إخفاء الأدلة بطرق وحشية
لكن الجريمة لم تنتهِ بالقتل.
بدأ فصلٌ آخر أكثر رعبًا: إخفاء المعالم.تم حفر حفر جماعية بجوار السجن.
جُلبت الجثث على عربات يدوية (براويط)، ودُفنت في الحفر.
سُكبت مواد كيميائية لتسريع تحلل الجثث.
وبعد سنوات، في محاولة يائسة لإزالة كل أثر، نُبشت الحفر، وطُحنت العظام، وأُلقيت الرفات في البحر.
👂أصوات من داخل الجحيم: شهادات تُدمي القلب
لم تكن المحكمة تعتمد على وثائق فقط، بل على شهادات حية من ناجين، وحراس، ومسؤولين.وكل شهادة تضيف طبقة جديدة من الرعب، وتُثبت أن ما حدث لم يكن عفويًا، بل كان مخططًا له من أعلى المستويات.الشهادات التالية وغيرها شكلت حجر الزاوية في إثبات وقوع الجريمة بشكل ممنهج وبأوامر عليا.
📌 شهادة عمران الحويج – سائق شاحنة:
كشف الحويج، الذي كان يعمل سائق شاحنة بالقرب من السجن، كيف تم استدعاؤه للمساعدة في حفر "أخدود" كبير بجوار السجن. ووصف الرائحة الكريهة التي كانت تفوح من المكان، وكيف رأى لاحقاً مجموعة كبيرة من أفراد الشرطة العسكرية يحضرون أعداداً هائلة من الجثث على "براويط" (عربات يدوية) ويضعونها في الحفرة، ثم يسكبون عليها سوائل كيميائية لتسريع تحللها.
📌 شهادة خليفة الصوان – سجين شارك في المفاوضات:
بصفته أحد شهود الواقعة من الداخل، قدم صوان تفاصيل دقيقة عن بداية التمرد. شرح كيف أدى شجار بين السجناء وحارس إلى مقتل الحارس واستيلاء السجناء على المفاتيح. الأهم من ذلك، كشف صوان عن المفاوضات التي جرت بين السجناء ومسؤولين كبار مثل عبدالله السنوسي، حيث كانت مطالب السجناء تتمثل في تحسين ظروف العلاج، السماح بالزيارات، وعرضهم على القضاء. لكن هذه المفاوضات انتهت بتصفية المرضى الذين تم نقلهم بحجة العلاج.
📌 شهادة محمد عليوة – عضو في لجنة الحوار:
بصفته عضواً في لجنة التحاور مع السنوسي، أكد عليوة أن المفاوضات بدأت بـ "استهزاء وتهديد" من قبل عبدالله السنوسي. ورغم الاتفاق المبدئي على تلبية المطالب، تم نقل المرضى والقتلى، ثم تم إعدام أكثر من 200 سجين مريض بعد نقلهم. العلاج.
كل شهادة تضيف طبقة جديدة من الرعب، وتُثبت أن ما حدث لم يكن عفويًا، بل كان مخططًا له من أعلى المستويات.
⚖️المحاكمة: 86 متهمًا أمام العدالة... لكن العدالة لم تحكم
بعد سقوط النظام في 2011م، بدأت التحقيقات.في 25 ديسمبر 2019م، عقدت محكمة استئناف طرابلس جلسة تاريخية، ووجّهت الاتهام إلى 86 شخصًا، بينهم:
عبدالله السنوسي (رئيس المخابرات)
علي الشافعي أبوشعالة
منصور ضو
ضباط وجنود من رتب مختلفة
الاتهامات: القتل العمد، والمساعدة في القتل، وإخفاء الجثث، وإساءة استخدام السلطة.
لكن في قرار أثار صدمة واسعة، أصدرت المحكمة حكمها: "سقوط الجريمة بمضي المدة".
نعم، رغم أن الأدلة كانت دامغة، وأن الشهادات كانت مروعة، وأن الجريمة صُنّفت دوليًا كـ جريمة ضد الإنسانية، إلا أن المحكمة استندت إلى قانون التقادم الليبي القديم، الذي ينص على أن الجنايات تسقط بعد 10 سنوات.
بما أن الجريمة وقعت في 1996م، والتحقيق بدأ رسميًا بعد 2011م، اعتبرت المحكمة أن "المدة انقضت".
🌍العدالة الدولية ترفض التقادم... لكن ليبيا التزمت بالسيادة
لم يكن الحكم في قضية سجن أبو سليم مجرد نهاية لمسار قضائي طويل، بل كان تجسيداً حياً للصراع العميق بين تطبيق القوانين الوطنية ومبادئ العدالة الدولية الراسخة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالجرائم الأشد خطورة.
فقرار محكمة استئناف طرابلس بإسقاط التهم عن المتهمين بموجب "التقادم" يطرح سؤالاً جوهرياً:
هل يمكن للسيادة القانونية المحلية أن تعفي مرتكبي جرائم ضد الإنسانية من العقاب؟
أساس الحكم الليبي: التمسك بمبدأ التقادم
لفهم قرار المحكمة الليبية، يجب الغوص في الدفوع القانونية التي شكلت أساس حكمها.
فقد استند قضاة المحكمة بشكل أساسي إلى المبادئ التالية المستمدة من القانون الليبي:
💡مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) فهذا المبدأ يعني أن الأفعال والقوانين يجب أن تُحاكم وفقاً للنصوص القانونية التي كانت سارية وقت ارتكابها. بما أن مذبحة أبو سليم وقعت عام 1996، فقد طبقت المحكمة قانون العقوبات الليبي آنذاك.
💡قانون التقادم: وفقاً للمادة 107 من قانون العقوبات الليبي، تسقط الدعوى الجنائية في الجنايات بمضي عشر سنوات من تاريخ وقوع الجريمة. وبما أن التحقيقات الرسمية الأولى بعد الثورة بدأت في عام 2011، أي بعد مرور حوالي 15 عاماً على المذبحة، فقد اعتبرت المحكمة أن المدة القانونية لتحريك الدعوى قد انقضت.
💡مبدأ عدم رجعية القوانين الجنائية: دفع محامو الدفاع، وقبلت المحكمة، بأن القوانين والاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها ليبيا لاحقاً، والتي تمنع سقوط الجرائم ضد الإنسانية بالتقادم (مثل القانون رقم 29 لسنة 2013 بشأن العدالة الانتقالية)، لا يمكن تطبيقها بأثر رجعي على جريمة وقعت قبل إقرارها. هذا المبدأ يهدف إلى حماية الحقوق المكتسبة وضمان اليقين القانوني، لكنه في هذه الحالة استُخدم لمنع المحاكمة.
من منظور قانوني محلي بحت، قد يبدو حكم المحكمة متسقاً مع نصوصها الداخلية. لقد طبقت القانون كما هو، مع إعطاء الأولوية لمبدأ عدم الرجعية على حساب ملاحقة جريمة بشعة.
📚دروس من العالم: مبادئ القانون الدولي: لا تقادم للجرائم ضد الإنسانية
نعم. دول أخرى واجهت نفس المعضلة، وتجاوزتها.
✅ في الأرجنتين: بعد سقوط الحكم العسكري (1976-1983م)، واجهت الديمقراطية الجديدة "قوانين العفو" التي أصدرها العسكر. في عام 2005م، أعلنت المحكمة العليا في الأرجنتين أن هذه القوانين غير دستورية لأنها تتعارض مع التزامات الأرجنتين الدولية بموجب المعاهدات التي وقعت عليها، والتي تلزمها بالتحقيق في جرائم التعذيب والاختفاء القسري ومحاكمة مرتكبيها. اعتبرت المحكمة أن الجرائم ضد الإنسانية لا يمكن أن يشملها عفو أو تقادم.
✅ في تشيلي: في عهد الديكتاتور أوغستو بينوشيه، صدر قانون عفو عام 1978م. لسنوات، منع هذا القانون محاكمة المسؤولين عن جرائم الاختفاء والقتل. لكن بدءاً من أواخر التسعينيات، بدأ القضاء التشيلي في تبني تفسير مبتكر: اعتبروا أن جريمة "الاختفاء القسري" هي جريمة مستمرة لا تنتهي إلا بظهور جثة الضحية أو الكشف عن مصيره. وبما أن الجريمة مستمرة، فإن قانون العفو أو التقادم لا ينطبق عليها. سمح هذا التفسير القضائي بمحاكمة العديد من كبار المسؤولين، بمن فيهم بينوشيه نفسه.
هذه السوابق تظهر أن القضاء يمكن أن يلعب دوراً فاعلاً في تحقيق العدالة من خلال تفسير القوانين المحلية بما يتماشى مع الالتزامات الدولية، معتبراً أن الجرائم ضد الإنسانية تسمو فوق القواعد الإجرائية العادية.
لكن في ليبيا، لم تكن هناك إرادة سياسية قوية، ولا نظام قضائي مستقل كافٍ، لاتخاذ قرار جريء. على النقيض تماماً، يقف القانون الدولي الجنائي، الذي تطور بشكل كبير منذ محاكمات نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية. تقوم فلسفته على أن بعض الجرائم، لخطورتها الفائقة، لا تمس دولة واحدة بل الإنسانية جمعاء،
وبالتالي لا يجب أن تخضع للقواعد المحلية مثل التقادم. المبادئ الأساسية هنا هي:
💡تعريف الجرائم ضد الإنسانية: وفقاً للمادة 7 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تُعرَّف الجرائم ضد الإنسانية بأنها أفعال محددة (مثل القتل العمد، الإبادة، التعذيب) تُرتكب في إطار "هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين". تنطبق وقائع مذبحة أبو سليم بشكل واضح مع هذا التعريف، حيث كانت عملية قتل جماعي منظمة وموجهة ضد مجموعة محددة (السجناء).
💡عدم سقوط الجرائم ضد الإنسانية بالتقادم: تنص المادة 29 من نظام روما الأساسي صراحة على أن "الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة لا تسقط بالتقادم". هذا المبدأ هو حجر الزاوية في القانون الدولي الجنائي، ويهدف إلى ضمان عدم إفلات مرتكبي أفظع الجرائم من العقاب لمجرد مرور الوقت.
عدم الاعتداد بحجة "تنفيذ أوامر عليا": ينص القانون الدولي على أن تنفيذ أوامر من حكومة أو رئيس لا يعفي الشخص من المسؤولية الجنائية إذا كانت الأوامر تتعلق بجرائم مثل الإبادة أو الجرائم ضد الإنسانية. وهذا يبطل بشكل مباشر أحد خطوط الدفاع الرئيسية التي استخدمها المتهمون من الرتب الأدنى.
المقارنة والتعارض: أين يكمن الخلاف؟
يكمن التعارض الجوهري في أن المحكمة الليبية أعطت الأولوية لسيادة قوانينها المحلية ومبادئها الإجرائية (مثل التقادم وعدم الرجعية)، بينما يعطي القانون الدولي الأولوية لطبيعة الجريمة نفسها، معتبراً أن فظاعتها تجعلها خارج نطاق القواعد الإجرائية العادية.
المحكمة الليبية: نظرت إلى القضية من منظور إجرائي، حيث رأت أن شرط المدة الزمنية لم يتم استيفاؤه.
القانون الدولي: ينظر إلى القضية من منظور موضوعي، حيث يرى أن طبيعة الجريمة (كونها ضد الإنسانية) تسمو فوق أي عائق إجرائي محلي.
كان بإمكان القضاة الليبيين تبني تفسير مختلف، حيث إن ليبيا قد صادقت على اتفاقيات دولية تتعلق بحقوق الإنسان، وهذه الاتفاقيات، وفقاً لمبادئ قانونية عالمية، يجب أن تكون لها الأسبقية على التشريعات المحلية المتعارضة معها. لكن المحكمة اختارت مساراً قانونياً محافظاً، مما أدى إلى حكم يراه الكثيرون "عدالة منقوصة".
وهنا يكمن التناقض الكبيرفالقانون الدولي، وخاصة نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ينص بوضوح على أن: "الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.". لكن المحكمة الليبية رفضت تطبيق القوانين اللاحقة، مثل قانون العدالة الانتقالية رقم 29 لسنة 2013م، الذي يمنع التقادم في الجرائم السياسية والأمنية، بحجة "عدم رجعية القوانين". بمعنى: "نحن نطبق القانون كما كان في 1996م، وليس كما يجب أن يكون اليوم."
🛑الدفاع: "كنا ننفذ أوامر"
كانت حجج المتهمين مثيرة للجدل:"كنا ننفذ أوامر عليا، ولا يحق لنا الاعتراض."
"الجريمة كانت رد فعل على تمرد مسلح."
"الإجراءات القضائية غير قانونية لأنها بدأت بعد 2011."لكن القانون الدولي يُسقط حجة "التنفيذ" في جرائم الإبادة، ويؤكد أن الإنسان مسؤول عن أفعاله، حتى لو كانت بأمر من الأعلى.
💔عائلات الضحايا: عقود من الانتظار، وانتهت بالخذلان
لأكثر من 25 عامًا، انتظرت عائلات الضحايا الحقيقة. بعضهم لم يعرف حتى مكان دفن ابنه.آخرون ظلوا يبحثون عن جثة، أو رفات، أو حتى صورة.واليوم، بعد أن كشفت المحكمة التفاصيل، وثبتت الجريمة،
جاء الحكم ليُعيد الجرح إلى نقطة الصفر.
لا عدالة.
لا تعويض.
لا اعتقال.
فقط إفلات من العقاب.
🔚خاتمة: أبو سليم لن يُنسى
مذبحة أبو سليم لم تكن مجرد حدث دموي.كانت رسالة قمع من نظام استبدادي.وكانت اختبارًا للعدالة في مرحلة انتقالية.وأخفق هذا الاختبار.لكن الأهم أن الضحايا لم يموتوا مرتين.إنهم يعيشون في ذاكرة من بقي، وفي شهادات الناجين، وفي كل سطر يُكتب عنهم.العدالة قد تؤجل، لكنها لا تموت.وما كشفته المحكمة في 2019، رغم قرار التقادم، هو اعتراف رسمي بالجريمة.وهذا بحد ذاته خطوة.قد لا تكون كافية، لكنها بداية لمحاكمة مؤجلة.
📌خلاصة سريعة: حقائق لا تُنسى عن مذبحة أبو سليم
📅 الحدث: يونيو 1996م
🕯️ عدد الضحايا: أكثر من 1200 سجين
🏛️ المحاكمة: 25 ديسمبر 2019م – محكمة استئناف طرابلس
⚖️ الاتهامات: قتل عمد، جرائم ضد الإنسانية، إخفاء جثث
📜 النتيجة: سقوط الدعوى بـ"مضي المدة"
🌐 التصنيف الدولي: جريمة ضد الإنسانية (لا تسقط بالتقادم)
📚 القانون المحلي: تطبيق قانون التقادم (10 سنوات) رغم تطورات لاحقة
نرحب بتعليقاتكم