المسيح ولد لتوه...
وطفق يبكي كعادة الأطفال، والعام يموت متورم الأنف في حانة معتمة. والأجراس ما تزال تدق.. والنساء.
واحد + واحد = اثنين، إلا إذا كان أحدهما امرأة.. عندئذ يصبح الحساب لعبة غشيمة فحاصل الجمع أكثر من اثنين دائماً. وفي ليبيا: واحد ونصف، لأن الليبيين يعدون على أصابعهم، وأصابع يدك ليست سواء!
المرأة النصف تحمل ليبيا والرجال فوق رأسها... وتغسل الجوارب وتعالج تسوس الأسنان بالقطران، وتنقع الغسيل ريثما تغلي رأس جارتها من القمل، وتعيد طلاء الأبواب في عاشوراء وتمسح أرضية البيت وتخمن الوقت بامتداد الظل لكي تعرف متى تنضج الخميرة، وتعد مصيدة الفئران وتربي الأطفال بيد وتعجن باليد الأخرى..
والشعراء في ليبيا يدعونها "القمر" ويتغزلون في لون حذائها الفيلاني.. وعندما يعود زوجها في المساء يحك جلده ويقرأ ما تيسر من الصحف، ثم يرفع صوته مطالباً بالقمر: "احضروا الجارية، وأحرقوا اللبان في مباخر الفضة واطعموا الكلب على الفور لكي يرزقنا الله ولداً!". فالبنت غير مرغوب فيها... البنت تعاد للبقال.
وعندما تتجمع العجائز محطمات الأقدام حول موقد النار وينضج الشتاء في السماء وتتصاعد رائحة النعناع والقسطل وتثغو نعجة العيد الوقورة... تسبح الأحلام في عيون العجائز مثل الفوانيس وتخفق قلوبهن وراء مكة في هودج من أهداب الفراشات: "يا سعد من رأى عرفات وشرب ماء زمزم وشج رأس الشيطان بحجر".
ثم يهطل المطر من عيون العجائز حول موقد النار وتثغو نعجة العيد الوقورة.
في ليبيا واحد + واحد = واحداً ونصفاً، لأن بربروسا سقط في الحساب ألف عام، ومضى يناقش في السياسة ويلعن الحظ والانتخابات... وشركة النقل ومدير مصلحة الري. ويطالب الدولة بعلاوة الدخان حتى تورم لسانه في نهاية المطاف، وقد بلغ به الضيق مداه عندما سمع في المقهى أن ديجول ذهب لزيارة القوقاز!
"القوقاز"، صاح بربروسا، "هذه خديعة واضحة". وطمأنه بائع الحمص: "ولا تخف فإن الألمان له بالمرصاد"، ثم ارتفعت أذنا عامل المقهى وماسح الأحذية والقديس الصغير النظيف الثياب، وبدأ بربروسا الملحمة بثبات: "ولو كان هتلر حياً...".
لو كان هتلر حياً يا أمنا العجوز!
لأن التوراة قالت ذلك، لأن الرجال يعدون على أصابعهم، وأصابع يدك ليست سواء... في ليبيا!
وعندما تصل ضاربة الودع حاملة العالم في قفة، تتجمع البنات حولها في الحال، ويحضرن الغربال والبيض والقروش الفكة ويوشوشن الودعات بأحلام الحب المرتجفة في عروقهن حتى تحترق قلوب القواقع الميتة..
"هل يعرفني حبيبي يا سيدتي الودعة، وهل يعرف أنني أنتظره وراء شقوق الباب كل يوم، لابسة أبهى ما لدي معطرة بزيت العنبر... وابتسم له وراء الباب".
وتطرح المنجمة الودعات فوق الغربال وتحصي القروش من خلال الثقوب لكي لا تبيع كذبة زائدة فيما تتهامس الودعات مذعورات، "وراء الباب.. وراء الباب؟".
المسيح ولد لتوه... وطفق يبكي كعادة الأطفال.
لأن الحساب - مثل القصائد - يحصى بالبيوت، ويباع لكافور الإخشيدي والسلطان مقابل الخلع والدنانير، فإذا دفع كافور الثمن أعطاه بربروسا أحسن ما لديه، وإذا كان كافور مجرد طباع على الآلة الكاتبة يهجوه بربروسا ويعطيه النسخة السادسة ويطلق عليه النار.
"هذه الجارية ثمنها ألف.. وهذه ثمنها مائة بينتو وستة أرطال". والنخاس تصدر رخصته من إدارة السجل العقاري فالمرء حر في أملاكه ما دام قد بلغ سن الرشد وأنجب بناتاً. وعندما يبدأ المشتري في المساومة يقول بربروسا بحزم: "أنا لا أماكس، هذا هو الثمن.. وتذكر أنني أسلمك بضاعة ممتازة مختومة بالشمع على كفالتي".
فإذا لم يكن الختم جيداً أعيدت البضاعة إلى الجمرك.
آخر الأنباء: أن المسيح ولد لتوه، وطفق يبكي كعادة الأطفال. وأن العام مات متورم الأنف من البرد، وأضاء الناس حول نعشه كل ما لديهم من مصابيح النيون وأحرقوا عينيه بالتبغ.. أما في ليبيا فقد انقطع التيار وأضاء الناس لمبات الغاز وتجمعت العجائز حول موقد النار. وعاد الأطفال من الغدير مجعدي الأقدام وطالبوا بطبق التمر وحكاية الثعبان "وكان ياما كان".
وكان الغول يطحن العظام، والشرر يتطاير من منخريه، وحوله الدجاج الأسود والعقارب السوداء. وقد خافت الأميرة عندما رأته على هذه الحال، واختبأت تحت النطع مثل البرغوث، وأسلمت أمرها للواحد المنان...
متى يا سيدي بربروسا تطحن القمح وحولك الحمام؟
والمرأة النصف تحمل ليبيا فوق رأسها، وتربي الأجيال بيد، وتعجن الخبز باليد الأخرى... والشعراء يدعونها "القمر" ويتغزلون في حذائها الفيلاني.
نرحب بتعليقاتكم