📁 آخر الأخبار

أولاد العقيد ..للكاتب الليبي مجاهد البوسيفي

أولاد العقيد ..للكاتب الليبي مجاهد البوسيفي
أولاد العقيد ..للكاتب الليبي مجاهد البوسيفي

البداية كانت بريئة

    في أواسط الثمانينيات، اقترح صحفي لبناني فتحت له الثورة الليبية مجلة خاصة به، أن ينشر لقاء مع "القائد"، يركز فيه عل الإنساني له، كحيلة إضافية، لتقريبه من الناس باعتباره إنسان وعندما سأله عن علاقته بأولاده، أجابه، بأنه منشغل أغلب الوقت عنهم، لكنه مطمئن لأنهم يتربون وسط الناس، وهذا هو بالضبط مربط الفرس في قصة الأولاد، إذ أنه ما من أب ينبغي له أن يسمح للأخرين بتربية أولاده، فما بالك برأس الدولة وقائدها ذي النفوذ، حيث الأمر يأخذ طابعاً أكثر حذرا وانتباها، لكنه كان صادقا فهذا هومای يحدث فعلا على الأرض، منذ البداية وحتى قفل ذلك الملف.
    البداية كانت بريئة، وكان الكثير من الليبيين راضين عما يسمعونه من قصص، وكنت واحداً من هؤلاء الناس، صادف أنه يسكن في حي لا تفصله عن معسكر باب العزيزية المقر الرسمي للعقيد إلا طريق المطار، حيث مدرسة خاصة للبنات تأتي منها جاراتنا وبنات العيلة بالأخبار، كان هناك ثلاثة من أولاد العقيد على الأقل درسوا هناك، وكانت الناس عندما تأتي سيرتهم يبدون بشكل عام معجبين بهم، وبالطريقة التي يتربون بها من حيث التواضع والانصياع لقوانين المدرسة - المجتمع، إذ كان الأولاد يأتون في سيارة عادية رفقة ناس عقلاء لا يتدخلون في شيء، والأمور تسير دون صعوبات.

قصة أم حبيب

     أذكر أننا كنا نروى في الحي قصة "أم حبيب" التي ذهبت للمدرسة تشتكي على أحد أولاده، وكيف أنها عبرت عن ذلك بغضب أم به نوع من التهديد، ورجعت سالمة للبيت، وللأمانة لم أعد الآن متأكدا من حقيقة تلك القصة من حيث وقوعها بالفعل، ولكني متأكد من أننا روينا لبعضنا البعض هذه القصة بحماس مرات ومرات ونحن جالسون على (المرشبيدي ) نتبادل أطراف الحديث في مراهقتنا المبكرة، لكن طبيعة الأشياء وقوة حضور السلطة سوف تغيران الكثير من معالم هذا المشهد العفوي، ملقية بظلالها الثقيلة عليه.

تعويض المساعدين بالاولاد

    إذن، وسط مشاغله الثورية ومهامه العالمية، لم يجد القائد الوقت الكافي للمشاركة في إعداد الأبناء للحياة، كما يتوجب على كل أب، لم يحدث ذلك، ووجد الأبناء أنفسهم يتعاملون مع محيط قاس صنعه والدهم، تتحرك به دوائر مهمتها الأولى هي التملق وابتکار وتلبية الرغبات.
    ثم جاءت تلك المرحلة التي أراد القائد فيها أن يعوض مكان مساعديه بأولاده، وبدت الطريق مفتوحة لهم للتقدم نحو المؤسسات العامة والجيش، ومع الأيام بدأت تتشكل حولهم مجموعات متباينة الخدمات، مرحلة تتحول فيها الثورة من ملك للجماهير والاقرباء والشركاء الثانويين، إلى ملك للعائلة كماركة يحق لها استخدامها فيها تشاء ، وللإنصاف كان ذلك قد بدأ يجري في سياق عربي عام صعد ،فيه أبناء القادة والرؤساء إلى الصف الأول في المرحلة الأخيرة من حكم الجمهوريات ، في مصر ،العراق،سوريا واليمن، المرحلة التي نحت لها عالم الاجتماع السياسي سعد الدين إبراهيم تعبيراً جديداً في العربية هو "الجملوكية - الجمالوکیات" ، حيث يتحول القادة الثوريون إلى ملوك، وجمهورياتهم إلى ممالك ثورت للأبناء، وهي القوس الأخير قبل اكتمال الدائرة، حيث تتقلص الثورات إلى ملكيات خاصة، أكثر انغلاقا من تلك الممالك التي ثارت عليها في زمان أول.

محمد و الساعدي

    برز أولا "محمد" من الزواج الأول، ثم الابن الثاني من الزواج الثاني " الساعدي"، والسبب اختيارهم قطاع الرياضة القريب من الشعب، لممارسة ما توفر لهم من السلطة والنفوذ، کان محمد ناحية الوالدة، ينحدر من عائلة طرابلسية عريقة، جده لأمه کان رئيس الشرطة الملكية بالعاصمة وكانت له طريقته الهادئة في إنجاز الأمور، بينما عبر الساعدي تصاعديا عن شخصية تنتمي إلى فصيلة {عدى" صدام حسین، غیر متوازن وذو مزاج حاد.

المنافسة وتقاسم الأمتيازات

     تالياً ستندلع منافسة بين الأخوين استمرت سنوات، كانت أخبارها تتردد عند المشجعين ومتابعين آخرين كثر، كانت حرباً استخدمت فيها كل الوسائل ، من همز ولمز وهتافات مشجعي الكرة، ثم وصلت إلى لحظة مجنونة عقب إحدى مباريات الديربي الليبي، قام فيها جنود مسلحون خرجوا من المنصة الرئيسة لملعب طرابلس الرسمي، وقاموا بفتح النار علمی المشجعين، ليسقط العشرات في الحال، بعد هذه الحادثة أبعاد الله ابنه الساعدي إلى إيطاليا، حيث بقي يتسكع لسنوات بين أندية كرة القدم التي قبلت بهداياه الكبيرة، في مسيرة رياضية قضاها على بنك الاحتياط.قبل أن يحرم نت ذلك لأيضا بعد أن فشل في اختبار المنشطات، بينما مضى محمد في طريقه، تحصل على قيادة شركة البريد والاتصالات ونادي "الاتحاد" العريق، وقناة رياضية خاصة به، ثم رئاسة اللجنة الأولمبية فيما بعد. وبذا قرار الرياضة الليبية كلها كلها بعد چلاء أخيه نحو الغرب.
    بعد أن حاز الساعدي على سلسلة من المناصب وفرت له مكاناً دائما في السباق، فقد كان ضابطا برتبة عالية في سلاح الهندسة، ومنح أيضا أسوة بأخيه نادي "الأهلي "المرجح أنه الأكثر شعبية في البلاد قبل أن يصبح رئيس اتحاد الكرة، وفي الأثناء امتلك سلطات أمنية ومالية لا يستهان بها. مع كل ذلك، لم يستطع فعل شيء، ولا توقف عن آن يكون عنيفاً في أي وقت.

سيف الإسلام

    في الأثناء كان اسم الابن الأول من الزواج الثاني، سيف الإسلام قد بدأ يتردد بهدوء، ببهو الفندق الكبير " سمعت بذلك الاسم أول مرة في الربع الأول من التسعينيات، أخبرني أحد المحيطين به أنه يفضل البقاء فترات في الجبل الأخضر، حيث أخواله، وحيث يلتقي البعض أحيانا كما علمت بعد قليل، من زميل عربي صديق ذهب هناك لمقابلته وخرج بانطباع إيجابي عنه.
    ساعدت حالة العداء التي بين الأخوين السابقين في بناء اسم"سيف" كنموذج مختلف في واقع يخلو من الخيارات، خاطب جمهوراً أوسع من جمهورالكرة، وبكلام يشبه ما يقولونه في السر، كان نوع جديد من الكلام الذي لم يقل سابقا في العلن أخذه سيف معه الى المنصة وبدأ يردده، يسخر من اللجان الثورية ويحتقر قياداتها، يستعرض الخراب الذي تسببت فيه، ويطالب بدولة عصرية تلبي احتياجات الناس، وسيصل سيف إلى نقطة يتحصل فيه احتكار للعمل السياسي، وعاش مع مشروعه سنوات من الازدهار، لكن في نهاية الأمر، لم يعطه القائد مالم يعطه لجلود، عندما قرر مجددا أن يغير الخط ويضحي بالولد.

المعتصم بالله وخميس

    يوجد أيضا ابنان آخران للعقيد أثارا الاهتمام: المعتصم بالله وخميس. "المعتصم " صنع حول نفسه هالة غامضة، مال نحو خصوم أخيه سيف، وتضامن مع القبيلة والحرس القديم من قيادات حركة اللجان، وتوفر أغلب الوقت على كتيبة مسلحة جيداً، و أنصارفی الجيش، قام بتصرفات حمقاء في بداية سيرته، مما أغضب الوالد فقام بإرساله إلى مصر لقرابة عام، حيث منحه مبارك شخصيا رتبة عقيد، ولكنه بعد ذلك دخل إلى الدائرة ورافق والده في العمل والسفر أكثر من أي من أخوته، وعندما رأى الوالد أنه "نضج"، تم تفصيل منصب جديد له كرئيس لمجلس الأمن القومي، مما أهله لحضور اجتماعات الدولة المهمة، والبقاء جنب والده أغلب الوقت.
أما الأصغر "خميس"، فقد اختار الجيش مهنة له، تدرب ثم واصل في روسيا، قبل أن يمنح من الأب حق تکوین لواء محترف يتوفر على كل الإمكانيات يسمى "لواء 32 المعز"، وخصص له مقراً مهيبا كبيرا يقع غرب طرابلس، كان "خميس" هادئاً متواضعاً، أشبه الأولاد بأبيه في هذه السن.

سطوة الأخوة الخمس وعائشة 

    عملياً أصبح هؤلاء الأخوة الخمس، إضافة لأختهم "عائشة" يسيطرون على كتائب أمنية، وقطاعات المواصلات والنقل البحري والرياضة والإعلام بشكل مباشر، غیر تأثيرهم في قطاعات كالنفط والاستثمارات ، وهكذا لم يبق للآخرين من الثوريين الكثير ليقرروا بشأنه بعد أن احتل الأولاد مفاصل النفوذ، دون خبرة أو معرفة حقيقية تحصنهم من الزلل، مانحاً إياهم كقائد وأب الحماية الكاملة ضد الاعتراض والنقد أو حتى الإبلاغ، فقد تعامل مع الشكاوى القليلة التي وصلته عنهم بإنكار تام، وفي بعضها عاقب المشتکی نفسه ، لم يكن على استعداد لسماع أي أحد فيهم مهما كان، وحرص على تعزيز حضورهم ومعاقبة من لم يكن متعاوناً معهم مهما كانت طلباتهم غريبة، أو كان عدوانهم على الناس شرساً وغير محتمل، مرة، أمر بهدم مقر أحد أعرق الأندية الرياضية، نادي الأهلي ببنغازي، لأن جزءاً من مشجعيه هتف في الملعب ضد ابنه الساعدي في دوري الكرة.

هانيبال وسويسرا 

     وفي أخرى فتح جبهة كاملة ضد سويسرا التي أوقفت ابنه "هانيبال" وهو الابن الأخير الذي ينبغي التعريف به، تخرج من الكلية البحرية، وسرعان ما وضع کامل قطاع النقل البحري تحت خدمته، لم يعرف عنه اهتمام بالسياسة أو الإرث، لكنه كان شرساً ومدمناً على الملذات، وكانت الشرطة السويسرية قد اوقفته بسبب إساءة معاملة "خدمه الخاص" في الفندق الذي نزل فيه، وحتى بعد عامين من تلك الحادته ظل غضب القذافي الأب مشتعلا بسبب ما حدث، مستمراً في حملته بكل الوسائل التي في يده، عندما حضر احتفالاً كبيراً في مدينة "بنغازي" بمناسبة المولد النبوي الشريف، وفي خطبته بالمناسبة صب ما استطاع من السخط على رأس السويسريين، الذين وصفهم بأنهم "ملة فاجرة" وأن "أي مسلم في العالم يتعامل مع سويسرا فهو کافر ضد الإسلام والله ورسوله"، ولم يتورع عن أن يمارس سياسة الخطف والابتزاز کي ينهي ذلك الملف كما يريد.
    كان يعتبر أن المساس بالأولاد هو مساس به شخصيا، وربما كانت هذه هي طريقته للاعتذار عن الوقت الذي لم يكن فيه مع عندما احتاجوه كأب...
    هذه الحماية الشرسة أغرت الأولاد وهم في ذلك العمر الحساس، بالمضي قدما في جسد الدولة وحيازة ما تم تهيئته لهم كانت الإغراءات كبيرة متنوعة، وكلها تخاطب حس المغامرة والرجولة المشتهاة، دون رادع أو رقيب.

الأولاد والعقد الأخير 

    وعندما حل العقد الأخير من حكمه، كان الأولاد قد أصبحوا قوة حقيقية على الأرض، وكانوا في الطريق لذلك قد أثاروا ما يكفي من القلق بنزاعاتهم العلنية على النفوذ، تغيرت الخريطة الداخلية من جديد، و تقلصت دولة الثورة من جديد، بعد أن حل صراع الأولاد داخل العائلة مكان صراع الأجنحة والحواريين. لقد دفع العقيد بهم بالتوالي نحو العمل في السلطة دون أن يضع لهم خطوطا واضحة عدا مكانته، وانتهى الأمر هم مثقلين تحت الرتب والكتائب والمشاريع،وإغراءات الحياة التي لم تكف عن الظهور، وصلت العلاقة بينهما نقطة أصبحت تثير القلق على مستقبل البلاد، وفي زمن ما بدأ أن الجميع متخوف من هذا النفوذ المتقاسم بينهم ومستقبله، إلا العقيد، الذي بدا كأنه غير معني بالأمر، بل مناصراً له.

ثورة فبراير والخلاف بين الأولاد 

ففي نهاية الأمر كل شيء يتم تحت سقف مكانته، فحتى هم في نهاية الأمر أدوات للعمل وتمييز، وعندما قامت ثورة فبراير وانفجر الخلاف بين الأولاد عمن هو المسؤول بينهم عما حدث، كان الحل الذي رماهم به الوالد هو إطلاق سباقات موت جديد، هدفه قمع التمرد الشعبي بأسرع وقت ، وجائزته نيل ولاية العهد لمن يفوز.

من كتاب دولة الخيمة  لمؤلفه الكاتب مجاهد البوسيفي
صحيفة المنظار الليبية
صحيفة المنظار الليبية
تعليقات